انتفاضة الحرم القدسي وسؤال الجدوى
على تخوم الحرم القدسي الشريف تتفجر معاناة الفلسطينيين في كل مرة. اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية في العام 2000، بعد زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون للحرم القدسي برفقة قوات الأمن الإسرائيلي، فيما تندلع اليوم ما يعتبرها البعض “الانتفاضة الثالثة” بعد الحديث عن نية إسرائيل السماح لليهود بدخول المسجد والمصليات داخل الأقصى.
|
على مدار أكثر من عقدين من التفاوض بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، رفضت الأخيرة أن تتخلى عن أي جزء من مدينة القدس بما في ذلك القدس الشرقية التي يطالب المفاوض الفلسطيني بأن تكون عاصمة دولته الموعودة. تشبثت إسرائيل على المستوى السياسي والدبلوماسي، فيما واصلت خلق وقائع جديدة على الأرض وذلك بضم مستوطنات تحتوي عشرات الآلاف من اليهود إلى الحدود الإدارية للقدس وتهجير الفلسطينيين من المدينة وتجريدهم من الهوية. وقد نشأت حقائق جديدة بمرور الوقت. ففي حين شكل التواجد اليهودي 2 بالمئة في القدس الشرقية عام 1948، بات يقترب اليوم من 50 بالمئة وهو ما يشكل نجاحاً لما عرف بمخططات “تهويد القدس”.
بعد احتلال إسرائيل للمزيد من الأراضي الفلسطينية والعربية في حرب يونيو 1967، قررت أن “القدس الشرقية هي جزء من أرض إسرائيل، يسري فيها قانون الدولة، قضاؤها ونظامها الإداري”. وتتابعت القوانين التي تؤكد على “حق” إسرائيل في كامل مدينة القدس، وترفض التخلي عن أي جزء منها.
وإن كانت الانفجارات الشعبية تبدو بدافع الذود عن أحد أهم مقدسات المسلمين وأهم مقدسات الفلسطينيين، لكن جذورها ضاربة في معاناة الشعب الفلسطيني من الاحتلال والمستوطنين الذين يواصلون اقتطاع مساحات من أراضيهم من خلال سياسات الاستيطان والمصادرة والسطو على المنازل والإبعاد. كل ذلك يشكل الأرضية الكامنة للغضب الفلسطيني، بالتوازي مع حالة اليأس والإحباط من واقع القيادة والفصائل الفلسطينية المختلفة التي تبدو تائهة ومشوشة الرؤية أمام الطريق المسدود الذي أوصلت الفلسطينيين إليه.
أمام هذا الجبل الهائل من الاحتقان، والذي تتربع على قمته قضية “تهويد القدس”، عاد الفلسطينيون إلى المقاومة من جديد. مقاومة فردية غير منظمة تستخدم السكاكين لطعن المستوطنين الذين يشكلون رأس الحربة في مشروع تهويد القدس وطرد الفلسطينيين من أرضهم التاريخية.
لا يعبأُ منفذو عمليات الطعن بحسابات الثمن الذي يمكن أن يدفعه الدبلوماسي الفلسطيني العاجز عن تبرير طعن “المدنيين”، ولا حتى بالجدل الدائر حول إن كان المستوطن يعتبر “مدنياً” أو عسكرياً. هذا جدل دائم وقديم، يعود إلى زمن الانتفاضة الثانية حيث برز تنفيذ العلميات الاستشهادية وارتفعت معها أصوات البعض بأن الفلسطينيين يدفعون أثمانا سياسية وإستراتيجية جراء تنفيذ تلك العمليات أكثر مما تدفعه إسرائيل بكثير من أثمان بشرية. كان ذلك الادعاء ينطلق من أن العمليات الاستشهادية تشكل ذريعة لإسرائيل لمواصلة الإجراءات الاستيطانية والتهويدية في ظل صمت المجتمع الدولي الذي يعتبرها في مواجهة مع “الإرهاب”. كانت العمليات تتم بقيادة منظمات فلسطينية محددة، وكان يترتب على ذلك ثمن إضافي وذلك باستهداف إسرائيل لتلك المنظمات واغتيال قادتها بدعوى الرد على العمليات الاستشهادية.
اليوم يعود صوت “الاعتدال” ليتحدث عن الثمن الذي يتكبده الفلسطيني في انتفاضته الأخيرة، ويضيف بأن سنوات التهدئة وعدم ممارسة المقاومة المسلحة خلال العقد الماضي وسّعت التضامن العالمي مع الفلسطينيين، وزادت من قوة حملات المقاطعة للكيان الصهيوني، ذلك أن التضامن مع الضحية أسهل في حال اقتصر على كونه ضحية فقط ولم يبد أي قدر من المقاومة العنيفة. ولكن صوت الاعتدال اليوم لا يبدو مقنعاً وقوياً كما كان في السابق. من المعلوم أن المجتمع الدولي صم آذانه عن مطالب الفلسطينيين طيلة السنوات العشرة الماضية التي لم تتخللها أي انتفاضة أو عنف، كما تجاهل استمرار إسرائيل بتشييد المستوطنات. ما يعني أن الفلسطينيين دفعوا دوماً ثمناً باهظاً أياً كانت أفعالهم النضالية والأشكال التي تتخذها.
إن من ينفذ العمليات اليوم هم شبان مستقلون لا يرتبطون بتنظيمات مسلحة، ويدفعون حياتهم فحسب ثمناً لأعمال المقاومة التي يبدونها. ويشكل ذلك أزمة لإسرائيل، إذ ليس بوسعها أن ترد على تلك العلميات الفردية بعمليات اغتيال وباجتياح المدن والحصار الجماعي الذي اعتادت أن تفعله في الانتفاضة الثانية. هنالك دوماً ذريعة متاحة لهذا الكيان العنصري لكي يرد على العمليات على نطاق واسع ولكن الأمر أصعب قليلاً مما مضى.
ربما وسعت سنوات التهدئة من التضامن العالمي مع الفلسطينيين، ولكن أيضاً، في ظل الانتفاضات الفلسطينية تصاعدت حملات التضامن العربي والعالمي وتم إحياء القضية الفلسطينية من جديد في وقت كان يعيش الفلسطينيون معاناتهم بصمت. كما أنضجت كل انتفاضة مرت على الفلسطينيين مئات الشبان ورفعتهم إلى مصاف القادة وفتحت آفاقاً جديدة للعمل الشعبي. الأهم من كل ذلك أن الانتفاضة الفلسطينية كانت دوماً تعيد تقوية الروابط الواهنة بين التجمعات الفلسطينية المتباعدة، الضفة وغزة والقدس وفلسطينيي 48 وفلسطينيي الشتات.
كاتب فلسطيني سوري