انتخابات وليست استفتاء مصريا

على الرغم من الحديث المتواتر عن انخفاض شعبية السيسي لا يزال لديه من التأييد ما يضمن له فوزا مريحا. قد تنخفض نسبة التأييد قليلا إلا أنها ستظل في الحدود الآمنة.
الاثنين 2023/10/02
انتخابات منزوعة الدسم السياسي

تستعد مصر لإجراء استحقاق رئاسي مهم في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي، والذي تخطى استحقاقين سابقين بطريقة لم تكن العملية الانتخابية محل اهتمام من قبل الكثيرين بسبب الشعبية التي أحاطت به لدوره في مساندة الثورة على حكم جماعة الإخوان واستعادة الاستقرار، والتخلص من كابوس الإرهاب الذي خيّم سنوات على البلاد.

مع تصاعد حدة الأزمة الاقتصادية والتضييق في الفضاء العام من الطبيعي أن تتراجع الشعبية، فلا يوجد حاكم في أيّ دولة يحظى بها سنوات طويلة، حيث تظهر مشكلات، وتطفو الأزمات، ويتزايد الخصوم السياسيون، ويفتر الحماس الداعم له.

منحت هذه العوامل الانتخابات الرئاسية في ديسمبر المقبل زخما كبيرا لها في الشارع المصري، ووفرت لها اهتماما من جانب النخبة السياسية في الداخل، والمراقبين في الخارج، وجرى تسليط الأضواء على من سينافس الرئيس الحالي السيسي، والذي لم يعلن ترشحه رسميا حتى الآن، لكن كل المؤشرات تقول إنه سيخوض الانتخابات، وفي مواجهته أسماء عدة، أبرزها رئيس حزب تيار الكرامة السابق أحمد الطنطاوي.

◙ من الضروري أن تحافظ الانتخابات المصرية على جوهرها في المنافسة، لأن من يريدون تحويلها إلى استفتاء شعبي قد يتسبّبون عن قصد أو دونه في تشويه مرحلة يمكن أن تنهي قطيعة مع الماضي

يعلم الطنطاوي أن عبوره العتبة الانتخابية، وهي الحصول على التوكيلات اللازمة المؤهلة لقبوله كمرشح رئاسي، عملية مضنية بسبب التعقيدات البيروقراطية، ويحاول أن يظهر عبر جولاته أمام مكاتب التوثيق المخوّل لها إصدار التوكيلات أنه يحظى بشعبية، للإيحاء بوجود التفاف حول شخصه، فإذا لم يتمكن من الحصول على العدد المطلوب (25 ألف توكيل من 15 محافظة مختلفة، ألا تقل كل محافظة عن ألف توكيل) قد يضع النظام المصري في مأزق، فالصورة التي تبثها حملته وهي أشبه باستفتاء ضمني تشير إلى شعبيته، فكيف لا يتمكن من جمع التوكيلات اللازمة؟

وإذا جمع العدد المطلوب من التوكيلات وخاض الانتخابات ولم يحالفه الحظ فيها، يمكنه التشكيك في نزاهتها بما يملكه من صور وفيديوهات من أماكن متفرقة يدّخرها ليوم يلجأ إليها لإحراج الحكومة التي “اضطهدته”، ما يعني أن الطنطاوي يدخل أيضا استفتاء لقياس مستوى شعبيته وليس انتخابات بمواصفات ومعايير قانونية محدودة، تؤكد غالبية تصرفاته أنه غير واثق في تطبيقها بالصورة العادلة.

تحولت الانتخابات الرئاسية إلى استفتاء على الضفة الأخرى، ويمثلها أنصار الرئيس السيسي، حيث يرون أنه أكبر من دخوله منافسة من هذا النوع، وأسرفوا في جمع توكيلات، في محاولة لتأكيد أنه هو المفوض شعبيا وبأغلبية كاسحة، بينما بإمكانه الحصول بسهولة على تأييد 20 عضوا في البرلمان، بل يستطيع الحصول على أصوات كل الأعضاء، باستثناء صوتين أو ثلاثة، ولا يحق لعضو البرلمان منح تزكيته لأكثر من مرشح.

تشهد صور الرئيس السيسي أمام مكاتب الشهر العقاري المنوط به إصدار التوكيلات من المواطنين على أنّ ما يجري في مصر أقرب إلى الاستفتاء المبكر عليه وليس عملية انتخابية عادية، حيث توافد المئات في مشهد يبدو معدا سلفا لتعزيز صورة ذهنية حول شعبيته، وأنه سيخوض الانتخابات بعد تفويض الناس له، أي نزولا عند رغبتهم، وهو سيناريو الهدف منه تصوير الرئيس السيسي كقائد غير طامع في السلطة.

سعى النظام المصري إلى توفير الأجواء المناسبة لتكون كل مظاهر العملية الانتخابية حاضرة، من مرشحين لهم توجهات متباينة ويمثلون المعارضة، وإشراف قضائي كامل، ووعود بالنزاهة والشفافية، وحوار وطني بين مؤيدين ومعارضين لتكتمل الصورة بالطريقة التي تزيل الرواسب السابقة حيال التشكيك في الانتخابات.

كان يمكن للنظام المصري أن يجري انتخابات منزوعة الدسم السياسي، كما حدث في انتخابات عام 2018، وكان بإمكانه عدم إتاحة المجال لأيّ شخصية معارضة للترشح، لكنه اختار طريقا انتخابيا حقيقيا من المفترض أن يمضي فيه حتى نهايته.

◙ لعدم تكرار نماذج الاستفتاءات العرجاء من المهم أن يخوض الرئيس السيسي انتخابات حقيقية، فمهما كانت قوة خصومه لن يتمكنوا من منافسته

على الرغم من الحديث المتواتر عن انخفاض شعبية السيسي، إلا أنه لا يزال لديه من التأييد ما يضمن له فوزا مريحا، قد تنخفض نسبة التأييد قليلا، إلا أنها ستظل في الحدود الآمنة، وهو انخفاض يمكن أن يصبح مفيدا، ويستخدم في إجهاض المخاوف التي يرددها البعض مسبقا حول عدم نزاهة الانتخابات.

يصر قريبون من السيسي على عدم الالتزام بقواعد اللعبة الانتخابية الشفافة، والانحراف بها لتخرج عن الشكل الطبيعي، ما يضعها في خانة أقرب إلى الاستفتاء، من خلال تظاهرات مفتعلة للتأييد أمام مكاتب التوثيق، والإسراف في الحصول على الملايين من التوكيلات بلا داع حقيقي، والمبالغة في إهانة مرشحي المعارضة.

بقدر ما تفيد هذه المسألة في خدمة فكرة التفويض الشعبي المطلوبة رمزيا، بقدر ما يمكنها أن تضر بالمشهد الانتخابي وتبعده عن مساره الصحيح، وتجرّه بعيدا كي يتحوّل إلى استفتاء وربما فوضى سياسية، بكل ما يحمله هذا التصرف من كراهية في وجدان المصريين، حيث يذكّرهم بمراحل زمنية سابقة لجأ فيها غالبية الرؤساء إليه.

مراحل كانت فيها كل وسائل الإعلام مملوكة للدولة ومكمّمة أفواهها، ولا توجد منصات للتواصل الاجتماعي، ولا حتى معارضة تعبّر عن إرادتها الحرة بطريقة سلمية ومباشرة، ومع ذلك تم التعامل معها باستهانة ولم تمثل قيمة أخلاقية أو إضافة سياسية، لأنها لا ترقى إلى العمل الصحيح، وتعقد لخدمة الحاكم وأهدافه.

حسنا فعلت الشركة المتحدة للإعلان بإعلانها الوقوف على مسافة واحدة من مرشحي الرئاسة، في إشارة إلى عدم تسخير المحطات الفضائية والصحف والمواقع الإلكترونية والإذاعات التي تملكها لخدمة الرئيس السيسي، ويمكنها أن تضاعف أهميتها بتبني عقد مناظرات علنية بين المرشحين لعرض برامجهم الانتخابية، وذلك إذا أرادت تبديد المخاوف من انحيازها للسيسي أو معارضتها للطنطاوي.

◙ الطنطاوي يدخل أيضا استفتاء لقياس مستوى شعبيته وليس انتخابات بمواصفات ومعايير قانونية محدودة، تؤكد غالبية تصرفاته أنه غير واثق في تطبيقها بالصورة العادلة

ولعدم تكرار نماذج الاستفتاءات العرجاء من المهم أن يخوض الرئيس السيسي انتخابات حقيقية، فمهما كانت قوة خصومه لن يتمكنوا من منافسته، فما بالنا بالفوز؟

ليس لأنه الحاكم الحالي أو أن أدوات الدولة سوف تجيّر لصالحه فقط، بل لأن المرشحين الآخرين لا يمثلون وزنا كبيرا في الشارع المصري، وأقصى ما يطمح إليه كبيرهم سياسيا (أحمد الطنطاوي) هو إحداث خلخلة في الفضاء العام، وهز الجسم السياسي الذي تكلّس، استعدادا لخوض الانتخابات بعد القادمة في مناخ أكثر حظا.

يمكن أن تكون الانتخابات المقبلة مقدمة لما بعدها من حيث تهيئة الظروف في مصر لانتقال حقيقي نحو التحول الديمقراطي، ويمكن أن تصبح استفتاء على الرئيس السيسي وتظل البلاد تدور في حلقات مفرغة من السياسة، ما يتسبّب في المزيد من الضعف العام، والذي يفتح الباب لرياح لا أحد يمكنه السيطرة على اتجاهاتها.

من الضروري أن تحافظ الانتخابات المصرية على جوهرها في المنافسة، لأن من يريدون تحويلها إلى استفتاء شعبي قد يتسبّبون عن قصد أو دونه في تشويه مرحلة يمكن أن تنهي قطيعة مع الماضي وميراثه السلبي، وتأخذ مصر خطوات للأمام.

8