الوير العراقي في خليجي البصرة

أحلى ما في الوير العراقي أنّك تجد أن أهله يتصارعون ويتعاركون من أجل التسابق لِتقديم الكرم وهو أجود أنواع الأخلاق التي تُقدّم لإخوة عرب تربطهم أواصر دم وأخوّة ومصير مُشترك.
الاثنين 2023/01/09
الكرم الحاتمي يأبى أن يُغادر شخصية العراقي وأخلاقه

عندما تتسوّق من البقّال وأردت أن تدفع له ثمن التسوّق يقول لك “خليهه علينه”، وإذا صعدت في تاكسي وأوصلك إلى حيث تُريد ومددت يدك إليه بِثمن الأُجرة خاطبك السائق “خليه على حِسابي”.

أينما ترحل أو ترتحل في أسواق ومقاهي وسيارات الأُجرة في العراق تجد ذلك الكرم الحاتمي الذي يأبى أن يُغادر شخصية العراقي وأخلاقه.

ربما لا يعرف الكثير من إخواننا “الخلايجة” معنى كلمة “الوير” التي يمتاز بها العراقيون وهي تعني أن يُسدّد الرجل ثمن الطعام أو الشراب الذي يتناوله أصدقاؤه من حِسابه الخاص.

وكثيراً ما كان الصُراخ بهذه الكلمة في المقاهي يتعالى عندما يدخل شخص إلى مقهى ويُقَدّم له الشاي ليجد أحد أصدقائه قد صاح “وير” بما معناه أن ثمن “إستكان” الشاي سيكون على حِساب ذلك الصديق، وطالما اشتدّ التنافس بين الحاضرين في المقهى بالأسبقية في الدفع.

ومن طرائف الوير في المجتمع البغدادي أنَّ المرحوم الشيخ ضاري شيخ قبائل زوبع كان جالساً ذات يوم في أحد مقاهي الكاظمية عندما سَمِعَ الجالسين يصيحون “وير” كُلّما دخل أحد أصدقائهم، حيث لم يكن الشيخ يَعهد بذلك من قبل لِقلة ارتياده المقاهي، فسأل عن معنى الوير، ولمّا عرف معناها هتف يُخاطب صاحب المقهى “أنا أخو فاطمة… ورور على الحاضرين كُلّهم” ولم يُغادر المقهى حتى دفع حِساب جميع مَن كان هُناك.

◙ ما يتحدّث به الضيوف الذين يزورون البصرة من كرم وشهامة أهلها وتنافسهم من أجل الظفر بِضيافة الضيوف انعكاس للوير العراقي الذي يأبى أن يترك موطنه

من ذكريات زمن الحصار الذي فرض على العراقيين ظروفاً اقتصادية صعبة وحياة معيشية أقسى، أنَّ تاجراً عربياً زار صديقاً له في بغداد من أيام ذلك الزمن للاطمئنان عليه والاتفاق على بعض الأعمال التجارية، حين تفاجأ أن صاحبه البغدادي قد سافر لعدة أيام خارج البلد لأغراض التجارة، لم يَكد الضيف يُطيل التفكير في كيفية قضاء وقته ببغداد حتى بادره أحد الموظفين العاملين في محلات صاحبه بدعوته إلى وليمة غداء في بيته المتواضع، استجاب لها الوافد، رد الفِعل كان الدهشة والاستغراب من ذلك الكرم لِرجل بإمكانيات مُتواضعة كانت تتوسّط مائدته أكلة السمك المسكوف وبعض المُسمّيات البغدادية من الأكلات، ظل الضيف حابساً مشاعره إلى أن أكمل وجبته حينها قال لصاحب الوليمة إذا كانت هذه وليمتك فكيف تكون وليمة ربّ عملك.

كان هذا الكرم في ظل ظروف قاسية لا يُمكن تخّيل صعوبتها عندما كان العراقيون يأكلون الرز المخلوط بنوى التمر المطحون، حين لم يُغادر الكرم الحاتمي حياتهم مع ضيوفهم.

يستغرب أهلنا في الخليج وهم يزورون البصرة الفيحاء بمناسبة خليجي البصرة لكرة القدم، من كل ذلك السخاء والكرم والإيثار في العطاء لأهل البصرة، وهم يعلمون جيداً أن شعباً مثل العراقيين لم يبخل على إخوته العرب بدماء أبنائه وتضحياتهم، في سبيل الأرض والعروبة في معارك التحرير ليهون بعده أي سَخاء.

ما يتحدّث به الضيوف الذين يزورون البصرة من كرم وشهامة أهلها وتنافسهم من أجل الظفر بِضيافة الضيوف انعكاس للوير العراقي الذي يأبى أن يترك موطنه.

أحلى ما في الوير العراقي أنّك تجد أن أهله يتصارعون، يتخالفون، وربما يتعاركون من أجل التسابق لِتقديم الكرم، وهو أجود أنواع الأخلاق التي تُقدّم لإخوة عرب تربطهم أواصر دم وأخوّة ومصير مُشترك.

يا ضيفنا إن زُرتنا لوجدتنا نحنُ الضيوف وأنت صاحبُ الدار… كم أنت مُوَروِر يا عراق.

9