الوظيفة: مديرة كل شيء
في صغري كانت والدتي رحمها الله تناديني بـ“مديرة”. بعد مماتها قضيت عمرا كاملا في تسلق هذا المنصب دون جدوى.
لم أتوقف أبدا عن الدراسة، إلى يوم الناس هذا. عملت صحافية، ومقدمة برامج إذاعية، ومترجمة محلفة، ومدربة، وشاعرة، وأخيرا منذ فترة قريبة ممثلة في دور أم لاجئة في فيلم هولندي قصير. وقد أبدأ دراسة أو كورسا جديدا في أي لحظة.
وبالطبع لم أنس في خضم كل هذه الوظائف والانشغالات أن أكون أما: المهمة الأكبر. كل هذه المهن، والدراسات لم توصلني إلى المنصب الذي رأتني فيه والدتي وطمحت في أن أعتليه. لم أسألها: مديرة ماذا؟ مدرسة؟ مستشفى؟ قسم وزاري؟ مديرة بنك مثلا؟ كنت أصغر من أن أستوعب حلمها، لكنها كانت تكرره باستمرار على مسامعي، حتى ترسخ لدي وأصبح هاجسا يطاردني في حياتي. أحيانا كنت أنسى، أحيانا أتذكر. لكنني لم أتوقف أبدا عن ملاحقة حلم أمي.
في حوار مع كاتبة هولندية معروفة تدعى كوني بالمن، حول روايتها الأخيرة “أنت قلت” الفائزة بأعلى جائزة أدبية في هولندا هذا العام، وتتناول سيرة حياة الشاعرة الأميركية المنتحرة سيلفيا بلاث، قالت الكاتبة الهولندية إن سيلفيا بلاث كانت ترغب في أن تكون كل شيء، لتحقق حلم أمها، وأنها تشبه جيلا كاملا من النساء في تلك الفترة اللاحقة للحرب العالمية الثانية، من الحاملات لأحلام لا تخصهن، هي أحلام أمهاتهن اللاتي منعتهن الحرب من أن يدرسن ويشتغلن ويحققن ذواتهن.
الكاتبة الهولندية ذكرت أنها، وبطلة روايتها، نموذجان من هذا الجيل، الذي تربى على فكرة تجاوز إخفاقات الأمهات وخسارتهن، وعلى أن يكون بديلا لهن، النموذج الناجح، الطموح، لأمهات لم تمكنهن الحرب من أن يفعلن شيئا ذا قيمة.
جيل رددت على مسامعه صباحا مساء عبارة “نحن لم نتمكن من أن نحقق ذواتنا، منعتنا الحرب، أنت البديل”، فحمل رغباته، ورغبات الأمهات، وعاش حياة صاخبة مليئة بالطموح والإنجازات، والإخفاقات، واللهاث والتشتت.
أستطيع الآن ربما أن أفهم، أن والدتي أرادت أن أكون مديرة لحياتي، لأحلامي، وطموحاتي، ونجاحاتي وإخفاقاتي، ومديرة لشؤوني، فلا أوكل أمري لغيري، ولا أجعل أحدا وصيا علي، مديرة لمستقبلي، ولشخصية متحررة من قيود التربية الموروثة. هل نجحت؟ لا أعرف. لكنني قمت بالوظيفة بشجاعة قصوى، وأدرت حياتي بما أتيح لي من قوة وصبر، وحكمة. حياتي الصغيرة التي تخصني وحدي. جلست على كرسي الإدارة بدوام كامل، ومن أجل مقابل لا يتعدى ضحكة صغيرة من ابني أو نظرة امتنان ورضا من عيني من يحبونني وأحبهم.
نعم يا أمي، أنا اليوم مديرة.. لكل شيء، كما أردت.
كاتبة من تونس مقيمة بهولندا