الهند الفقيرة تبني مقاتلة متطورة بإمكانيات ذاتية

طفرة تكنولوجية هندية في صناعة طائرات من الجيل الرابع تدفع بالدول المتقدمة إلى أن تكون حريصة على عقد شراكة مع الهند.
الجمعة 2021/03/05
خطوة تكنولوجية في الصناعة العسكرية

تقاطرت شركات السلاح العالمية على معرض الطائرات العسكرية “آيرو إنديا”، رغم متاعب السفر في عصر الوباء. وبينما يواجه المصنعون واقعا كئيبا يتمثل في الفجوة المتزايدة بين الولايات المتحدة وأقرب حلفائها من جهة، وبين قوى فاعلة أخرى على الساحة الدولية من جهة أخرى، جذبت الهند الانتباه لقدرتها على تصنيع مقاتلة متطورة بإمكانيات ذاتية.

بنغالورو (الهند) -  أرسلت الولايات المتحدة قاذفة بي.1.بي القادرة على حمل السلاح النووي لتكون إحدى أهم المقاتلات بمعرض الطيران، الذي أقيم الشهر الماضي ببنغالورو عاصمة التكنولوجيا بجنوب الهند، لكن النجم الحقيقي كان طائرة مقاتلة من طراز تيجاس هندية الصنع بالكامل.

ويقول سالفاتور بابونز، الباحث المساعد في مركز الدراسات المستقلة في سيدني، في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية، “إن التعاون هو السر الذي مكن دولة فقيرة مثل الهند من إدارة مثل هذه القفزة التكنولوجية الهائلة وتطوير تيجاس وتعني ‘مشع’ في اللغة السنسكريتية القديمة، وتعد أول طائرة مقاتلة أسرع من الصوت متعددة المهام”.

الهند معتمدة على ذاتها

سالفاتور بابونز: التعاون هو سر إدارة الهند للقفزة التكنولوجية الهائلة

وتحرص الهند على بناء شراكات في الصناعات الدفاعية مع الدول الأكثر تقدما، والأهم من ذلك، أن الدول المتقدمة حريصة على عقد الشراكات مع الهند.

وليس فقط لأنها تمتلك واحدة من أكبر ميزانيات المشتريات العسكرية في العالم ومجموعة كبيرة من المهندسين الموهوبين، ولكن الهند لديها أيضا تقليد قوي لسيادة القانون الذي يحمي الملكية الفكرية ويضمن إمكانية إنفاذ العقود في تناقض واضح مع الصين، التي تفقد الآن الوصول إلى العديد من التقنيات الغربية المتقدمة.

وهذا يجعل الهند شريكة أفضل لشركات التكنولوجيا الدولية التي لا تزال تعتمد عليها حتى الآن. وتُعد تيجاس مشروعا رائدا لبرنامج “أتمانيربهار بهارات” (الهند التي تعتمد على ذاتها) التابع للحكومة.

ومن خلال المقاتلة تيجاس تنضمّ الهند إلى مجموعة النخبة من الدول التي أثبتت قدرتها على تطوير وتصنيع ما يسمى بمقاتلات الجيل الرابع من الطائرات المقاتلة، التي تتميز بأنظمة التحكم الإلكترونية أثناء الطيران.

وقادت الولايات المتحدة الطريق في أواخر سبعينات القرن الماضي بطائرة أف-15 ثنائية المحرك وطائرة أف- 16 ذات المحرك الواحد، بينما بدأت الصين في إنتاج مقاتلات مماثلة من الجيل الرابع فقط في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.

ومن ثم بدأت الولايات المتحدة منذ ذلك الحين في إنتاج مقاتلات من الجيل الخامس مثل مقاتلات أف-22، وأف-35، بينما تتوق دول أخرى، بما في ذلك الهند، إلى اللحاق بالركب.

وحتى الآن، لا تعتمد صناعة الدفاع الهندية على نفسها بنفس القدر الذي قد ترغب فيه الحكومة، وتعد طائرات تيجاس، التي يتم تجميعها من قبل شركة هندوستان للملاحة الجوية الحكومية ومقرها بنغالورو مثالا جيدا، لاسيما وأن الحكومة تقدر أن المقاتلة تعتبر 60 في المئة فقط هندية من حيث القيمة، رغم أنه من المتوقع أن يرتفع هذا الرقم بمرور الوقت.

ويعد المحرك النفاث جنرال إلكتريك أف 404 أكبر المكونات الأجنبية داخل الطائرة، وكذلك أنظمة الرادار والحرب الإلكترونية لشركة صناعات الفضاء الإسرائيلية. وبانتزاع هذه المكونات الرئيسية، يكون لدينا فقط هيكل طائرة فارغ.

وبالنسبة للهند، لا تعد هذه مشكلة، وبصفتها دولة ديمقراطية تحترم العقود وتحترم قانون الملكية الفكرية، فهي قادرة على شراء التكنولوجيا المتقدمة التي لا تستطيع إنتاجها

بنفسها. وهذا يمنح البلاد ميزة كبيرة على منافسيها الإقليميين، الصين وباكستان، اللتين لا يثق بهما موردوهما.

فقد تمت عرقلة برامج تطوير المقاتلات النفاثة الصينية مرارا، بسبب عدم رغبة روسيا في توفير محركات عالية الأداء خوفا من الهندسة العكسية الصينية. ويتم الحصول على المكونات الرئيسية لمقاتلات جي.أف 17 الباكستانية المصنعة محليا بالكامل من الصين، كما هو الحال مع التصميم.

أما الهند، على عكس كلّ من الصين وباكستان، فهي مفضلة من قبل الشركات الأجنبية لقدرتها على اختيار الشركة التي صنّعت من خلالها مكونات متقدمة لمقاتلتها تيجاس.

وعندما واجهت الهند مشكلة في تطوير محرك كافيري الخاص بها للطائرة، تلقت عروضا للمساعدة من الشركات الروسية والفرنسية والبريطانية، بالإضافة إلى جنرال إلكتريك الأميركية.

وحدث الأمر نفسه مع إلكترونيات الطيران، حيث شعر الموردون الفرنسيون والسويديون بالانزعاج، لأنهم خسروا عقود الرادار ومعدات الحرب الإلكترونية أمام شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية.

إغراءات متنوعة

طراز تيجاس هندية الصنع بالكامل
طراز تيجاس هندية الصنع بالكامل

ويبدو أن الجميع يرغبون في دخول السوق الهندية، وهذا يمنح الهند نفوذا هائلا على الموردين للحصول على أفضل المعدات في العالم بأفضل الأسعار، وبموجب أفضل الشروط لنقل التكنولوجيا أيضا.

وفي هذه الأيام، لا يبدو أن أحدا يريد أن يساعد الصين على ارتقاء سلم التكنولوجيا العسكرية، لكن الولايات المتحدة وروسيا وإسرائيل، والعديد من دول الاتحاد الأوروبي، تتهافت على إقامة شراكات إنتاج محلية للأسلحة في الهند.

ووافقت فرنسا، بعد أن خسرت عقود محرك تيجاس وإلكترونيات الطيران، على إنشاء خطوط إنتاج محلية لطائرات الهليكوبتر من طراز بانثر وطائرات رافال النفاثة التي تزودها القوات المسلحة الهندية، كما أبرمت شركتا الطيران الأميركيتان بوينغ ولوكهيد مارتن اتفاقيات إنتاج مشتركة مع شركاء هنود.

والهند ليست حليفا غربيا، لأن أكبر مورد للأسلحة لها كان روسيا على مدار التاريخ. وبالإضافة إلى التواصل مع مقاولي الدفاع الغربيين، طلبت الهند أيضا إقامة مشاريع مشتركة مع شركاء روس، وإن كان ذلك حقق نجاحا محدودا.

وتفضل روسيا بيع أنظمة أسلحة كاملة، مثل صواريخ أس – 400 المضادة للطائرات، التي تسببت في الكثير من التوتر في العلاقات الأميركية الهندية.

وتعتبر روسيا نفسها موردا ذا تكلفة منخفضة، لذا فهي لا ترى فائدة تذكر في إنشاء قاعدة إنتاج في الخارج في الهند. كما أن العقوبات الغربية المحتملة تجعل من الصعب على روسيا العمل مع الهند على أي شيء سوى سياسة “اشتر وانقل”.

ويؤكد بابونز أن علاقات الهند المزدهرة في مجال التكنولوجيا العسكرية مع الدول والشركات الغربية، أعمق بكثير من مجرد عمليات الشراء.

سلاسل القيمة التكنولوجية

مكونات مقاتلة

  • تيجاس محرك نفاث من نوع جنرال إلكتريك أف 404
  • أنظمة الرادار والحرب الإلكترونية من شركة صناعات الفضاء الإسرائيلية
  • الهيكل مصنوع محليا بفضل نقل التكنولوجيا من الخارج
  • يتم تجميعها من قبل شركة هندوستان للملاحة الجوية الحكومية في بنغالور

مقاتلة

 

وفي إطار برنامج “الهند المعتمدة على ذاتها”، تستفيد هذه الدولة من قوتها الشرائية في عقد شراكات الإنتاج. ومثلما استخدمت اقتصادات نمور شرق آسيا أهداف المحتوى المحلي لشق طريقها بشكل استراتيجي في سلاسل القيمة التكنولوجية، تدفع مورديها الدفاعيين أولا إلى نقل معدات التجميع إلى الهند، ثم بناء شبكات محلية للتعاقد من الباطن على المكونات.

وفي الحقيقة فإن المشتريات الدفاعية مستثناة من قواعد منظمة التجارة العالمية، ما يجعل هذا الأمر أسهل بالنسبة للمعدات العسكرية مقارنة بالسلع المصنعة الأخرى، وتكون نتيجة هذه التعاقدات هي تصنيع الشركات الأجنبية في الهند ليس فقط لاحتياجات الهند ولكن للتصدير أيضا.

تقف المقاتلة تيجاس في طليعة هذا الجهد، حيث يهدف معرض “آيرو إنديا” الجوي في المقام الأول إلى عرض الصادرات الهندية المحتملة، حتى لو كانت الشركات الأجنبية تستخدمه من الناحية العملية كفرصة لتقديم بضاعتها إلى الهند.

وفي هذا العام، كان منظمو المعرض فخورين جدا بالمقاتلة تيجاس، إلى درجة أنهم رسموها في شعار المعرض ذاته. لم تحجز الهند أي طلبات تصدير في المعرض، لكنها تستكشف مثل هذه الصفقات في جميع أنحاء منطقة المحيط الهندي.

ويتم عرض المقاتلة تيجاس للتصدير بسعر قياسي يبلغ حوالي 43 مليون دولار لكل طائرة، وهو سعر أقل بكثير من سعر المقاتلة أف-16 جديدة. ولا يزال هذا أغلى من المنافسة الصينية، ولكن يُنظر إلى تيجاس على نطاق واسع على أنها طائرة يمكن الاعتماد عليها والثقة بها وبأدائها أكثر من أي طائرة تقدمها بكين.

وعلى عكس الطائرات الصينية، تحتوي المقاتلة تيجاس على مكونات مجربة ومختبرة تلبي المعايير الدولية، والعديد منها من أصل دولي. ولن يشعر أحد بقلق عند قيادته لطائرة بمحرك جنرال إلكتريك يعمل على تشغيل الطائرات الأميركية والأوروبية لمدة أربعة عقود، لكنهم قد يفكرون مرتين بشأن الاستعانة بمحرك روسي مخفض مصنوع في الصين.

وظهرت المقاتلة تيجاس لتكون علامة على كل من رغبة الهند في إنتاج الأسلحة محليا ودفع صناعة الدفاع الهندية لتطوير أسواق التصدير. ويبدو أن عملية توطين الدفاع تتقدم بوتيرة متسارعة.

لكن الصادرات هي المرحلة الأصعب، فرغم نمو صادرات الدفاع الهندية بسرعة في السنوات الأخيرة لكن فقط على أساس قاعدة منخفضة، حيث اشترت الإمارات وسيشيل مؤخرا معدات دفاعية من الهند بينما تبرز فيتنام كسوق محتمل لتصدير أنظمة الأسلحة الهندية.

ورغم أن عقود التصدير هذه لا تحظى بأهمية كبيرة، إلا أن الجائزة الكبرى بالنسبة للهند ستتمثل في أنها من الممكن أن تصبح مركزا منخفض التكلفة لتصنيع أنظمة الأسلحة المتطورة.

وقد يعني ذلك أن الشركات الأجنبية تستخدم الهند كقاعدة تجميع أو تقوم الشركات الهندية بتصدير منتجاتها الخاصة، مثل مقاتلة تيجاس. وبالنسبة للهند، يمثل أي من نموذجي الأعمال خطوة كبيرة إلى الأمام.

قد تحتل الصين الآن المراكز الأولى في العالم عندما يتعلق الأمر بالمكانس الكهربائية أو الهواتف المحمولة، ولكن لا توجد هناك أي شركة أجنبية من الممكن أن تنقل شبكات إنتاجها الدفاعية إلى الصين. وهنا تظهر مدى أهمية الهند، على الأقل عندما يتعلق الأمر بالصناعات الحساسة مثل الدفاع والديمقراطية وسيادة القانون.

6