الهدية عند العرب طقس اجتماعي يختزل الروابط الإنسانية

لا تنفصل الهدية من الناحية الأنتروبولوجية عن الهبة والعطاء، ولا يمكن فهمها خارج نظام التبادل الاقتصادي والرمزي. فهي عربون وفاء أو ردّ جميل، ورسالة تحوي كلمات الحب والاحترام والصداقة والاعتذار والشكر والثناء والعرفان. كما أنّها عملية اجتماعية مهمة تقوم على التبادل والتواصل بين الأفراد والمجتمعات، تتضمن العطاء والمنح ولها دور مهمّ في توطيد أواصر المحبة وتنمية مشاعر الودّ بين الأهل والأصدقاء. وهذا المعنى يتوافق مع تعريف الهدية عند علماء الاجتماع وعلم النفس، وقد ترجم مارشال سالنز هذا المعنى بقوله “إذا كان الأصدقاء يتبادلون الهدايا، فإن الهدايا هي التي تصنع الأصدقاء”.
الاثنين 2016/04/11
الهدية طقس كثيف بالدلالات الاجتماعية

تونس- رغم اختلاف طبيعة الهدية وقيمتها وظروف تقديمها ظلت، كما يقول عالم الأنثروبولوجيا كلود ليفي ستروس، واحدة من ثلاث عمليات تبادل تحكم العلاقات الإنسانية منذ تكوّنها، اللغة حيث نتبادل الكلمات، والقرابة في تبادل الزيجات، والاقتصاد حيث نتبادل الهدايا والأشياء.

فالهدية ليست مجرّد شيء يُمنح بل هي طقس اجتماعي بالأساس يختزل مجموعة من الروابط الإنسانية التي تجمع الأفراد ببعضهم البعض، وتعدّ الهبة بحسب مارسيل موس أحد الاكتشافات البشرية المذهلة التي ابتدعها الناس للتواصل في ما بينهم وإقامة علاقات تبادل بين الأفراد والجماعات، ولم تكن في المجتمعات القديمة مجرد أفعال ثنائية ينخرط فيها بشكل عشوائي طرفان، بل هي نظام شامل شديد التعقيد من المبادلات، فهي بحسب التصور السوسيولوجي، ظاهرة اجتماعية كلية تختزل جميع مستويات الحياة الاجتماعية بتفاعلاتها المادية والرمزية.

وارتبطت الهدية عند العرب قديما بقيمة الكرم، وهي من عاداتهم وتقاليدهم الأساسية ولها قيمة رمزية تفوق قيمتها المادية إذ تعزّز مبدأ العطاء والمنح الذي يعبّر عن مشاعر نبيلة، وكثيرا ما تغنى الشعراء بالهدايا سواء كانوا قدموها أو قُدّمت إليهم تعبيرا عن كرمهم أو كرم الواهب في أسلوب فخريّ أو مدحيّ. والهدية أكثر الأشياء رغبة وهي تدخل السرور في نفس كل من يتلقاها مهما كانت مكانته الاجتماعية كما يقول المثل الشعبي “غنيّة ونريد الهديّة”، بمعنى أن أيّ شخص يرغب في الهدية حتى وإن كان ليس في حاجة إلى هبة، وذلك لقيمتها الرمزية وما تتضمنه من تقدير ومحبة وما تعنيه من اهتمام.

الهبة ابتدعها الناس للتواصل في ما بينهم، وفي المجتمعات القديمة هي نظام شديد التعقيد من المبادلات

والهدية لا تُردّ ومن العيب الكبير أن نرفضها ومن غير اللائق كذلك عدم تقديم هدية في مناسبات اجتماعية مثل الزواج أو عند التهنئة بمناسبة سعيدة أو كذلك عند زيارة مريض. فالهدايا عادة ما ترتبط بالمواسم والأعياد وغيرها من المناسبات، وقد اكتسب الناس في تبادل الهدايا نوعا من التقاليد والعادات والأعراف، بحيث غدت وكأنها جزء حيوي من الحياة الاجتماعية. وارتبطت الهدايا في الثقافة العربية كثيرا بالزواج بما هو مناسبة اجتماعية، وتبدأ هدايا الزواج أولا بهدايا الخطوبة إذ لا يمكن أن يتمّ ذلك دون هدايا وهو تعبير عن طلب المودة والمحبة وتوثيق العلاقة بين الطرفين.

وتختلف الهدايا في هذه المناسبة باختلاف المجتمع والأفراد، فمثلا في بعض المجتمعات يقدم العريس طقما من الذهب أو ساعة وخاتما والبعض الآخر يقدم حقيبة مليئة بالأقمشة والعطور، وقد جرت العادة أن يُقدّم الخاطب إلى خطيبته هديّة ولكن إذا تراجعت عن الخطبة قبل عقد القران، يجب على أهلها إرجاع كل الهدايا وهذا واجب في أغلب المجتمعات، وكأنّ الهدية هنا ترفق بشرط وتعطى في ميثاق محدّد إذا بطل تبطل، وهو ما يحيل على علاقة الهدية بمبدأ التبادل في المجتمعات القديمة، حيث تعتبر الهدايا جزءا من التبادل الاقتصادي.

وما يلفت الانتباه أن هدية الزوج أو أهله إلى الزوجة غالبا ما تكون في المجتمع العربي من الذهب وتسلم في الغالب ليلة الزواج إلى الزوجة. وهو ما يتوافق مع المعنى اللغوي للهدية، فقد ورد في لسان العرب أنّ معنى هدى يهدي العروس إلى بعلها زفّها إليه- والهدية: العروس، وما أتحِف به أي بُعث به إكراما أو توددا – والمهداة والمهديّة: العروس زُفّت إلى بعلها. فتصبح العروس هدية وهي الهدية التي ينتظرها الرجل وإنْ كان هو كذلك يُعتبر – حتّى وإن سكت لسان العرب على ذلك – هديّة لعروسه، وهو ما نجد له صدى في عادات العرس في بعض المناطق التونسية، حيث تسمّى الليلة الثانية من ليالي الاحتفال وقبل يوم العرس بليلة الهدية، وهي أن يأتي أهل العريس بالهدايا إلى العروس.

الهدايا تثبت العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد والتي تحتاج لمناسبات حتى توطد الود والمحبة

فالعروس الهدية والمهداة تهدى إليها الهدايا وهي هدية للرجل، ولكي يتحصل على هديته الثمينة لا بدّ أن يقدّم لها هدايا وهو نوع من التبادل المعنوي الرمزي والمادي كذلك. وذلك ما يفسّر وجود المهر عند الزواج الذي يعتبر شرط عقد القران، وهو تقليد قديم متوارث في المجتمعات العربية ورغم تطور العصر واختلافه لا تزال بعض الأسر محافظة عليه.

وفي بعض المناطق العربية ترفض العروس ليلة زواجها أن يقترب منها زوجها إلا بعد أن يعطيها مبلغا من المال يُسمّى في غرب أسوان بمصر “فلوس الرضوة” وهو مبلغ من المال يدفعه عادة من النقوط التي يجمعها ليلة العرس. والنقوط هي هبة يقدمها الأشخاص للعريس تعبيرا عن مشاركتهم أفراحه ومساهمة منهم في نفقات العرس، فتعتبر النقوط نوعا من أنواع الهدايا التي يتبادلها الأفراد في مناسبات الزواج، وهي دلالة على المشاركة الجماعية للفرد والرابط الأسري والاجتماعي.

وتعتبر هدية العيد أو “العيدية” شكلا من أشكال الهدايا التي تمنح للأطفال من أجل إدخال الفرح والسرور في أنفسهم واحتفالا ببهجة العيد، وقد تكون هذه الهدايا في شكل نقود أو لعب تعطى للأطفال عند زيارتهم لبيوت الأقارب والجيران.

إن أهمية الطقوس التي يتم من خلالها تقديم الهدايا تثبت العلاقات الاجتماعية القائمة بين الأفراد التي تحتاج إلى مناسبات مثل أعياد الميلاد وغيرها من المواسم حتى توطّد الودّ والمحبّة وتكون الهدية في كل مناسبة توكيدا ودليلا على اهتمام لا ينفصل عن نظام التبادل الذي ينظّم الوجود الإنساني. فالهدية اجتماعية وأخلاقية بامتياز. وعندما نقدِّم الهدية لا نقدِّم فقط الشيء بل إننا نقدِّم جزءا من أنفسنا ومن مشاعرنا، فالهدايا تواصل دون استعمال اللغة، بل هي لغة أخرى بحروف وألفبائية مختلفة.

12