الهدنات القصيرة أكثر نفعا لإسرائيل

الهدنات القصيرة تحولت إلى خيار رئيسي مؤخرا فقد كانت الحرب تندلع بين إسرائيل وحركات فلسطينية على مدى زمني يستغرق سنوات، الآن لا يمر عام إلا وتشهد غزة حربا تأكل الأخضر واليابس فيها.
الاثنين 2023/05/22
شبح الحرب القصيرة حاضرا وفي أوقات كثيرة

عندما توقفت الحرب بين إسرائيل وحركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية منذ نحو عشرة أيام لم تتوقع جهات عربية أن تصمد الهدنة التي رعتها مصر وقتا طويلا، وبدأت جهات أخرى تنتظر توقيت اندلاع الجولة العسكرية التالية، من جانب إسرائيل أو أحد الفصائل الفلسطينية، لأن هناك العديد من الأسباب التي يمكن أن تؤدي إليها.

ترى غالبية الحكومات الإسرائيلية، خاصة عندما تكون يمينية وتطرفها يفوق المعتاد، أن شن حروب في فترات متقطعة على الحركات الفلسطينية المتمركزة في قطاع غزة، مثل حماس والجهاد، ضرورة إستراتيجية للحد من تخزين السلاح وتطويره.

كشفت الجولة الماضية من الحرب بين إسرائيل وحركة الجهاد عن امتلاك الأخيرة نحو ستة آلاف صاروخ، وحسب تقديرات إسرائيلية تملك حماس أربعة أضعاف هذا الرقم، وهو كبير مقارنة بما كانت عليه الحركتان قبل جولة العام الماضي.

بصرف النظر عن النوعية ومدى التأثير وقوة النيران وحجم ما يتم اعتراضه منها عبر القبة الحديدية أو مقلاع داوود، يظل دور هذه الصواريخ محصورا في النطاق المعنوي، وهي زاوية استثمرتها الجهاد في الجولة الأخيرة، والتي أعلنت قبيل انتهائها أنها قادرة على الصمود عدة أشهر، في رسالة لشريحة من المواطنين في المنطقة المسماة بغلاف غزة التي حظيت بنسبة كبيرة من تساقط الصواريخ فوقها.

◙ إسرائيل تسعى للحفاظ على حد أدنى من الأسلحة في يد الحركات الفلسطينية بما يمكنها من شن حروبها المتقطعة وعندما تحتاج إلى ذلك سياسيا، وكي توجد مبررات لتصرفات المتطرفين داخلها

لم يحل تدمير نسبة كبيرة من الصواريخ دون شعور سكان غلاف غزة بالمرارة والأسى والألم بعد أن كادت تستقر حياتهم داخل ملاجئ خوفا من تساقط بقايا صواريخ على بيوتهم أو رؤوسهم، حيث اكتفت حركة الجهاد بالقيمة الرمزية لما أطلقته من صواريخ بلا اكتراث لما تلحقه من أضرار مادية، فالرسالة المطلوب توصيلها هي أن الحركة تملك معينا لن ينضب من المعدات العسكرية.

تمثل هذه المسألة أحد أهم المبررات التي تدفع دوما القوات الإسرائيلية لشن معارك متقطعة وعلى فترات قصيرة ضد حركات فلسطينية في غزة، والتخلي عن صيغة شن حرب على الجميع في آن واحد، والحرص على انتقاء أهداف نوعية ومحددة.

طالت إسرائيل في الحرب الأخيرة ستة من القيادات العسكرية في الجهاد، وهي ضربة موجعة أغرتها بالعودة إلى سياستها الخاصة بعمليات التصفية التي تبنتها ضد قيادات فلسطينية سابقا ثم اعترفت بقلة جدواها وتأكدت من تصعيد قيادات جديدة أكثر تشددا.

هذه المرة الثانية على التوالي التي تسعى فيها إسرائيل للفصل بين حركتي الجهاد وحماس في الميدان العسكري كي تتمكن من تصفية الأولى، والاستفراد بالثانية وهي توحي لها بأنها لا تمانع في إحكام سيطرتها على قطاع غزة، الأمر الذي انتبهت الحركتان إلى خطورته، لأن حماس تعلم أنها سوف تؤكل بعد أن تبتلع إسرائيل الجهاد.

اتفقت القيادة السياسية في الحركتين على تشكيل ما يسمى بغرفة المقاومة المشتركة، وتضم الفصائل التي تملك جناحا عسكريا في القطاع، ومن أبرزها وأهمها على الإطلاق حماس والجهاد، لأن هناك صعوبة في تحرك أي آلة عسكرية أو مدنية في غزة دون علم قيادة حماس، فما بالنا إذا كانت منصات وصواريخ ومعدات عسكرية تتحرك في الأرض وتصعد إلى السماء؟

تعلم إسرائيل جيدا تفاصيل عملية توزيع الأدوار بين الجهاد وحماس وتقبل بها على مضض، لأنها تفضل عدم فتح أكثر من جبهة في وقت واحد، فإذا دخلت حماس صراحة ربما تستمر الحرب مدة أطول لا يستطيع تحمل تبعاتها المواطن الإسرائيلي، على الرغم من أن حكومة بنيامين نتنياهو حصلت على تأييد كبير جراء حربها الخاطفة على الجهاد وأعادت ترتيب أوراقها بعد أن واجهت تفسخا كاد ينهي تحالفها اليميني.

ولأنها لا تريد فقدان ما حصدته من مكاسب بإطالة أمد الحرب قبلت بوقف إطلاق النار وعيناها تنظر إلى موعد الجولة المقبلة، فالبيئة الداخلية والدور النشط الذي يلعبه المستوطنون في الحياة السياسية يفوقان ما كان سائدا، ويجعلان شبح الحرب القصيرة حاضرا وفي أوقات كثيرة.

تسعى إسرائيل للحفاظ على حد أدنى من الأسلحة في يد الحركات الفلسطينية بما يمكنها من شن حروبها المتقطعة وعندما تحتاج إلى ذلك سياسيا، وكي توجد مبررات لتصرفات المتطرفين داخلها، فضلا عن جعل الاستنفار مستمرا في الداخل، فلا تزال هناك قناعة بين ساستها مفادها أن السلام التام يشكل خطرا على مواطنيها، ولا يستطيع الكثير من قادة الحرب التعايش مع تداعياته.

تحولت الهدنات القصيرة إلى خيار رئيسي في السنوات الماضية، فقد كانت الحرب تندلع بين إسرائيل وحركات فلسطينية على مدى زمني يستغرق سنوات، الآن لا يمر عام إلا وتشهد غزة حربا تأكل الأخضر واليابس فيها وتأتي على جزء معتبر من أسلحتها.

◙ حركة الجهاد اكتفت بالقيمة الرمزية لما أطلقته من صواريخ بلا اكتراث لما تلحقه من أضرار مادية، فالرسالة المطلوب توصيلها هي أن الحركة تملك معينا لن ينضب من المعدات العسكرية

أدى تبني هذه السياسة إلى راحة نسبية لإسرائيل وضمان عدم تراكم الأسلحة لدى المقاومة بالصورة التي تمثل خطرا داهما على مدن إسرائيلية أو تزداد تكاليف التعامل معها ماديا، فما ينفق على صاروخ تتصدى به القبة الحديدية يفوق مئات المرات ثمن الصاروخ الذي تطلقه الجهاد أو حماس.

أوحى دخول مقلاع داوود الحرب بعدم ضمان دقة تصويب القبة الحديدية وزيادة الكلفة المادية، ما يشجع حركات المقاومة على عدم التردد في دخول الحرب، والتي تحولت إلى وسيلة لكسب الشعبية في أوساط فلسطينية ضاقت أمامها الخيارات السياسية، ولم يستطع قادتها تلبية طموحاتها الحياتية وتوفير حد أدنى من التوافق الوطني.

تعد الهدنات القصيرة هدفا محوريا في أجندة كل حكومة إسرائيلية ترى في الهدنات الطويلة فرصة يمكن أن تستفيد منها فصائل المقاومة لتخزين أسلحتها، فإذا كانت إسرائيل تحكم سيطرتها برا وبحرا وجوا وتتكاثر الأسلحة في يد المقاومة خلال فترات قصيرة، فما هو المصير بعد فترات طويلة؟

تشعر بعض القيادات الإسرائيلية بالخطر من الانجرار إلى هدنة طويلة، كما تشعر بالخطر نفسه من الحرب الطويلة، فكلتاهما يمكن أن تتحول إلى عبء سياسي كبير يقضي على أحلام جنرالات يتعرضون إلى اتهامات بأنهم غير قادرين على سد بعض الفجوات الأمنية في ظل الكثير من المعدات العسكرية المتقدمة تكنولوجيا، ويمكن أن يصيبهم هلع نفسي من مجرد إطلاق مئات الصواريخ التي يتم اعتراض معظمها في الجو ويسقط الباقي في أماكن خالية بلا إصابات بشرية تقريبا.

تكمن المشكلة في الصيغة التي أوجدتها الحركات الفلسطينية وتتعلق بتصدير الخوف وسط ما تمتلكه إسرائيل من ترسانة نووية، وتحويل الأسلحة البدائية إلى قوة معنوية تخشى بعض القيادات العسكرية من انتقالها مستقبلا إلى قوة مادية، ولذلك سوف يبقى خيار الهدنة القصيرة والمعارك القصيرة أكثر نفعا من الهدنات والمعارك الطويلة.

9