الهجمات الإرهابية وبعض المسؤوليات الغربية

الاثنين 2017/08/28

لا شك أن التطرف الديني مشكلة نابعة من طبيعة الثقافة الإسلامية نفسها، غير أن المسؤولية الأخلاقية والسياسية تبقى مشتركة إقليميا وعالميا. إن الإرهاب الذي يضرب المجتمعات الغربية اليوم، يضعها في المقابل أمام شيء من مسؤولياتها في ما جرى ويجري. ولكي نكون صرحاء، كثيراً ما شاهدنا الغرب يسحق إرثه التنويري بنفسه وهو يتواطأ أو يتساهل مع جماعات متطرفة في دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، سواء بدعوى الحريات الدينية أحياناً، أو باسم النسبية الثقافية أحيانا أخرى، أو لحسابات سياسوية ضيقة في بعض الأحيان. بل ثمّة رهانات يتحمّل مسؤولية تبريرها بعض علماء الاجتماع الذين يعرفون عن مناهج علومهم الكثير، لكنهم لا يعرفون عن موضوع الدراسة إلا النزر القليل. وبهذا النحو تصبح معظم الدراسات الغربية عن الإسلام السياسي مزيجا من الدراسة السوسيولوجية والسياحة الثقافية.

ثمة معطيات أساسية تتعلق باللاوعي الجمعي وبالمتخيل الديني لدى المسلمين، والتي يصعب الإلمام بها عن طريق الاكتفاء بالمعاينة، إذ لا بد من المعايشة. لا يمكن الاكتفاء بالإصغاء إلى الخطاب السياسي الذي ينتجه بعض السياسيين المسلمين أو الإسلاميين، لأن الكثيرين لا يقولون سوى ما يريد الآخر سماعه. وأما حين يكون المنصتُ غربيا فعلى الأرجح سيسمع أجمل السرديات وأبلغها أثرا على النفوس. ولكي نكون أكثر صراحة، فثمة سوء تفاهم في منظومة القيم. ذلك أن القدرة على “كتمان السر” لدى المسلمين تظل قيمة أخلاقية إيجابية. وهذا المعطى له تداعيات غالبا ما لا يستحضرها الدارسون الغربيون بسبب خلفياتهم الثقافية بدورهم.

مشكلة أخرى، معظم مساجد أوروبا اليوم هي خارج إشراف الدولة الوطنية التي توجد فوق أراضيها. وهي في الغالب إما تحت إشراف مؤسسات خاضعة لصقور المذهب السلفي، وإما على الأرجح تشرف عليها جماعة الإخوان المسلمين بمختلف فروعها، والتي عرفت كيف تسوّق لنفسها كبديل أوحد عن التطرف.

لقد تبنّت الكثير من المؤسسات الأوروبية مبادرات طارق رمضان عندما وعد بأنه سيشكل نموذجا للإسلام الأوروبي المتصالح مع إرث التنوير الأوروبي، وفي آخر المطاف كان الإسلام الأوروبي الذي وعد به مجرد نسخة سيئة عن الإسلام الإخواني، بل أسوأ منه بكثير. وذلك ليس بسبب نوايا رمضان، وإنما لأن الرجل- وعلى طريقة الفقهاء عوض المفكرين- وقع ضحية إرضاء المزاج العام لعوام المسلمين. لقد نسي أن دور المفكر ليس فقط قول كلمة حق عند “إمام جائر”، وإنما أيضا قول كلمة حق عند “جمهور جائر”. نحن اليوم أمام إرهاب معولم ويتبنى أيديولوجية افتراضية واجتثاثية، بمعنى أنها غير مرتبطة بالأرض. الإرهابيون عموماً من جنسيات مختلفة، من لغات مختلفة، من طبقات مختلفة، لكنهم في آخر المطاف من نفس الدين. هذا ليس من باب المصادفة. لذلك، يجب أن نبحث عن جذور الإرهاب داخل الخطاب الديني الذي يسمعه عموم المسلمين في المساجد والمدارس ووسائل الإعلام، وهو خطاب غالبا ما يحمل نفس المضامين ونفس المفاهيم ونفس القيم.

كثيرا ما شاهدنا الغرب يسحق إرثه التنويري وهو يتساهل مع جماعات متطرفة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط، بدعوى الحريات الدينية، أو باسم النسبية الثقافية، أو لحسابات سياسية ضيقة

أولا، إنه خطاب يعتمد على مفاهيم تعود إلى عصر التوسعات الإمبراطورية (دار الحرب ودار الإسلام، الولاء والبراء، الطاغوت، الجهاد، الجماعة، الطاعة…).

ثانيا، إنه خطاب يؤجج الانفعالات السلبية (الغضب والغيرة والكراهية والحقد والانتقام والعصبية، إلخ).

ثالثا، إنه خطاب يقف ضد الحريات الفردية، وضد حقوق الإنسان، وضد المساواة الكاملة بين الجنسين، وضد حقوق الأقليات (تكفير الآخر والنظرة الدونية للمرأة والتسلط على الحياة الشخصية، إلخ).

رابعاً، إنه خطاب يرسخ الوسواس بوجود مؤامرة عالمية ضدّ الإسلام (استعمال عبارات “أعداء الإسلام”، “أعداء المسلمين”، “الشيطان الأكبر” إلخ).

خامساً، إنه خطاب يلعن الكفار (غير المسلمين)، ويتوعّدهم بالهلاك في الدنيا قبل الآخرة (أدعية التهديد والوعيد).

في ضواحي المدن الأوروبية تُعدّ اليوم جماعة العدل والإحسان- وهي منظمة مغربية- ثاني أقوى تنظيم إسلامي داخل أوروبا بعد جماعة الإخوان المسلمين. صحيح أن هؤلاء لا يحرضون على العنف والإرهاب بنحو مباشر، لكن بنية الخطاب الديني الذي يحملونه توفر البنية الذهنية والبيئة النفسية المناسبة لإنتاج متطرفين.

حين نقول إن المشكلة تكمن في بنية الخطاب الديني الرّائج والشّائع فإننا نعلم بأن معضلة الغرب في المقابل تكمن في أن مفهوم الحريات الدينية- والذي هو مكسب حقوقي بلا شك- يضعه أمام إحراج كبير يمنعه من مطالبة المسلمين بإصلاح خطابهم الديني، لا سيما وأنّ الأمر يتعلق بأقلية دينية داخل أوروبا. وبلا شك تمثل حقوق الأقليات الدينية نوعا آخر من الإحراج. لذلك يتطلب الأمر تعاونا جديا بين النخب الغربية التي يجب أن تتحرر من الإحراج الحقوقي، ونخب التنوير في العالم الإسلامي والتي يجب أن تتحرر من الجُبن الفكري. الحل في الأخير أن نكون صادقين مع الذات ومع الآخر.

من باب الصدق مع الذات الاعتراف بأن القيم الأساسية التي يزرعها الخطاب الديني الشائع في نفوس المسلمين تدور حول التحريض على كراهية النصارى واليهود والكفار والحضارة المعاصرة.

وفي حالة أدلجة الدين تتسع لائحة المكروهين لتصبح على النحو التالي: اليهود والنصارى والماسونيون والشيوعيون والمثليون والحضارة المعاصرة. بحيث يجب على المسلم أن يتبرأ ويتبرم من تلك اللائحة كلها بلا استثناء. وإن لم يستطع أن يتبرأ من تلك اللائحة في مستوى الواقع العملي- سواء بسبب قلة الحيلة أو قلة ذات اليد- فعليه أن يتبرأ منها بقلبه على أضعف الإيمان. طبعا إذا استثنينا من تلك اللائحة كلمة النصارى فإننا نكون بالتمام أمام نفس اللائحة التي تصورها النازيون خلال النصف الأوّل من القرن العشرين.

كان هدف هتلر الأساسي تدمير الحضارة الغربية من الداخل باعتبارها تعيق “تفوق العرق النازي” والذي خُلق ليكون متفوقاً. تلك هي المهمة العنصرية التي ورثها المتطرفون الإسلاميون اليوم حين يعتقدون بأنهم ينتمون إلى أمة جُعلت أمة وسطا لكي تحكم العالم بأسره وفي كل جهاته.

لقد لاحظتُ ولاحظ الكثيرون منذ الأسابيع الأولى لظهور داعش أن هذا التنظيم الإرهابي يركز طاقته الاستقطابية على أبناء المهاجرين في الديار الأوروبية، وعلى رأسهم المغاربيين. ثم ظهر أن السبب التقني يتعلق بامتلاك أبناء المهاجرين المسلمين لجنسيات وجوازات سفر تمكنهم من التحرك عبر العالم بحرية أكبر من الآخرين.

أما السبب الثقافي فيتعلق بكون الثقافة الدينية القدامية التي تلقوها تمنحهم شعورا عميقا بالغربة داخل مجتمعات الحداثة ومجتمعات ما بعد الحداثة التي يعيشون فيها.

لكن من باب الصدق مع الآخر يجب الاعتراف بأننا لا نستطيع أن ننكر بأن سلطات الدول الغربية تتحمل أيضا نصيبها من المسؤولية السياسية والأمنية في تفشي الإرهاب المعولم والذي يبدو أنه لا يريد أن يترك موطنا آمنا. مثلاً، أو على سبيل الاستدلال، منذ سنوات طويلة ظهرت خلايا جهادية واضحة في عدد من أحياء مدن سبتة ومليلية (مستعمرتان إسبانيتان شمال المغرب)، وهي خلايا استغلت واقع الحريات في الأراضي الإسبانية، ونجحت من ثمة في تجنيد العديد من شباب المدن المغربية القريبة من المستعمرتين لأجل القتال في سوريا والعراق (تطوان والفنيدق، إلخ)، قبل أن يلوح بعضهم بحلم إعادة إسبانيا إلى “دار الإسلام”.

هنا بالذات تكون المسؤوليات مشتركة بين السلطات الإسبانية من جهة أولى، والسلطات المغربية من جهة ثانية. وهذا مجرّد مثال من بين أمثلة كثيرة. مجمل القول، لقد صارت المسؤوليات معولمة أمام رعب معولم. وفي كل الأحوال، فإن الكلام هنا قد يطول.

كاتب مغربي

9