الهاشمي لعرابي شاهد على "انقلابات" الجزائر

الجزائر - الهاشمي لعرابي وُلد شاعراً، لكنه فضّل أن يعيش الشّعر بدل أن يكتبه. عاصر كبريات قضايا منتصف القرن العشرين، من الحرب العالمية الثّانية إلى ثورة الجزائر، ثم الانقلاب عليها، وجد نفسه مناضلاً على أكثر من مستوى. أعاد اكتشاف الثقافة الشّعبية، ورافق بعضا ممن صنعواً تاريخاً، من مصالي الحاج إلى ديدوش مراد وكاتب ياسين، قضى حياته في سفر، بين عمله في المالية، وبين القراءة والاستماع للموسيقى، وانسحب أخيراً من الحياة كما لو أن شيئاً لم يحصل.
على تماس مع السياسة
الهاشمي لعرابي الذي ولد في العام 1929 وتوفي قبل أسابيع. لم يترك إلا كتاباً واحداً «مذكرات جزائري سعيد». كانت تلك المرّة الأولى التي يقرّ فيها جزائري بأنه «سعيد»، الجزائري «المتشائم» بطبعه، من النّادر أن يستشعر لحظات فرح، ربما كانت سعادة الهاشمي في «حريّته» في تدوين مذكرات صادمة وفاضحة عن جزائر خفيّة، لا نعرف عنها الكثير، عن جزائر يُستهدف فيها المثقفون، بالنّفي أو بالتهميش، عن الكبت الجنسي، الذي كان الرّاحل واحداً من ضحاياه، لكنه كان مثل رفاق له، زير نساء، نصيراً لقضايا الشّعب.
لعرابي كان مثقفاً ملتزماً، عاش الثّورة من الدّاخل، وتنقّل بين المسرح والموسيقى والأدب، عرف المغني الصّحراوي عبد الحميد عبابسة واقتسم معه، في فرنسا خمسينات القرن الماضي، تجربة تيه مع ألمانيا، واجه كاتب ياسين وصديقته السّويدية، بالأسئلة الشّائكة، جالس محمد لحبيب حشلاف، مؤرخ الموسيقى الجزائرية، ورافقه في مسيرة تطوّر الأغنية الحضرية، خالط ثوار الجزائر، والجيل الأول من جمعية العلماء المسلمين، التقى بعض قادة الثّورة واختلف معهم، وكرّس حياته للنقيضين.
كان لعرابي «سليط لسان»، خصماً للزمرة الحاكمة ولرموز «جبهة التّحرير الوطني»، كان من طينة الأجداد: أجداد متوحّشون.
حين وصل الأميركان إلى الجزائر، لدعم الحلفاء في الحرب العالمية الثّانية، كان الهاشمي في الثالثة عشرة من العمر، وهو يتذكّر أنه «مع وصول الأميركان تحوّل حيّنا تحولاً كاملاً. حياتنا أيضاً تغيّرت. البحرية الأميركية شيّدت حيّاً سكنياً لها طوّق ضاحية كلوصالومبي (اسم ضاحية في الجزائر العاصمة). وسرعان ما ازدهرت تجارة من نوع خاصّ: سجائر، سراويل جينز، علك، إلخ. وقام بعض الأميركان بتبني بعض أبناء الحيّ».
تلك الواقعة التّاريخية ستحفر في شخصية لعرابي، وتضعه في تماس مباشر مع السّياسة، التي ظلّ يمارسها، بأفق ثقافي، حتى آخر أيامه، في الشّارع أولاً حين كان يبيع الخضر، ثم مع رفاقه لاحقاً، فوصول الأميركان للجزائر لم يكن «علامة» طمأنينة، بقدر ما كان مؤشراً على إمكانية وصول الحرب العالمية للجزائر.
"مذكرات جزائري سعيد" كتاب لعرابي الوحيد، وفيه كانت المرة الأولى التي يقر فيها جزائري بأنه "سعيد"، الجزائري "المتشائم" بطبعه، من النادر أن يستشعر لحظات فرح، ربما كانت سعادة الهاشمي في "حريته" في تدوين مذكرات صادمة وفاضحة عن جزائر خفية، لا نعرف عنها الكثير
«المدينة كانت تحضّر نفسها للحرب. ملاجئ بنيت، صفّارات إنذارات وضعت، وفي المدرسة كانوا يعلموننا طرق استخدام قناع الغاز». والشّيء الأهمّ الذي استفاد منه الهاشمي لعرابي شخصياً من تلك المرحلة هو تعلّمه قليلاً من الإنكليزية، هذه اللغة التي سيطوّرها لاحقاً، ليصير متعدّد اللغات: العربية، الأمازيغية، الفرنسية والإنكليزية، وكذا الألمانية، فقد درس في الجزائر وفي تونس، ثم في ألمانيا وفرنسا، وحصل على دكتوراه في العلوم الاقتصادية من السوربون.
أواخر أربعينات القرن العشرين، سينتقل من الجزائر إلى تونس، لقضاء ثلاث سنوات في جامع الزّيتونة؛ فمسابقة الدّخول إلى جامع الزّيتونة “كانت تتضمّن اختبارات: منها حفظ ثلاثين حزباً من القرآن، معرفة فرائض الوضوء والصّلاة، التّحكم في النّحو». هناك سيقضي ثلاث سنوات، في التّعلم، وفي اكتشاف نفسه.
فوضوي غير مهادن
لم يكن يلعب دور المناضل المنزّه من الخطايا، كما فعل بعض مناضلي ثورة الجزائر، فهو لم يكن يخجل من الحديث عن تجاربه العاشقة، في الجزائر وفرنسا وألمانيا، عن عشيقاته العربيات والأمازيغيات والأوروبيات، عن تعدّد زيجاته، عن خيانته لهنّ وعن خيباته أيضاً، فالنساء كنّ جزءًا من تكوين شخصية الرّاحل، وعلامات مضيئة في سيرته غير المهادنة لحكام الجزائر، من أحمد بن بلة إلى عبدالعزيز بوتفليقة.
عاصر رؤساء الجزائر الثّمانية جميعاً، اختلف معهم كلهم، انسجاماً مع شخصيته الجبلية، المتمرّدة والرّافضة للخضوع. يقول عن بن بلة وبومدين «بن بلة وبومدين حكما بكرم ساذج، وبشعبوية عظيمة، حكمهما تميّز بعدالة اجتماعية مستلهمة من قراءة تقليدية للقرآن».
|
وبحكم عمله في قطاع المالية، فقد كان قريباً من أوساط القرار، ومنهكاً من الفرص الضّائعة في الجزائر، يضيف أن «التّاريخ لم يتوقف عن إعادة نفسه منذ 1962. عدوّ النّظام كان دائماً المؤسسات الخاصّة، سواء كانت جزائرية أو أجنبية»، هذه «البارانويا» التي تتبادلها الأنظمة الجزائرية فيما بينها، فرضت على البلد أن يعيش شبه منغلق على نفسه، مكتفياً ببيع حصصه من الغاز والبترول وفقط، وذلك رغم محاولات منه لتغيير الأشياء.
«غداة انقلاب بومدين على بن بلة (1965)، اتّصل بي وزير التّجارة وطلب منّي اقتراح مسودّة خطاب للرّئيس بومدين. في المسوّدة التي حرّرتها أشرت لأهمية التّفكير في سياسة اقتصادية، والابتعاد عن الاشتراكية. لكنها لم تؤخذ بعين الاعتبار، كنت ساذجاً، كنت أعتقد أن الجزائر تقوم على مؤسسات ديمقراطية».
كان شاهداً على «الانقلابات» السّياسية والثّقافية في البلد، كان مقرباً من الأوساط الإبداعية، وموظفاً في الأوساط السياسية، كان مراقباً قلقاً لواحدة من اللحظات الحرجة والمهمّة من جزائر ما بعد الاستقلال: الانقلاب الفاشل لقائد أركان الجيش الطّاهر زبيري على الرّئيس هواري بومدين (ديسمبر 1967)، وبعد حوالي نصف القرن من تلك الحادثة، لسنا نعرف، لحدّ السّاعة، خلفياتها وأسبابها، لكننا نعرف نتائجها التي تحدّث عنها لعرابي «محاولة الطّاهر زبيري الانقلابية ساهمت في تقوية حكم الرّئيس بومدين، وفي ترسيخ قناعته في الحاجة إلى الاشتراكية»، شبح انقلاب جديد، خيّم لسنوات على البلد، وأثّر نسبياً على ثقة النّاس في الحكومة أوائل سنوات السبعينات من القرن الماضي.
كانت تلك واقعة من وقائع كثيرة يلفّها الغموض من تاريخ الجزائر، فكثير من الأشياء وقعت، وسمع بها الشّعب من دون أن يفهم مسبباتها، هكذا هي أساليب الحكم في البلد، يتعاملون مع الشّعب باعتباره قاصراً، وغير ناضج، من جهة، ومن جهة أخرى، نجد أن السّياسيين وقادة الجيش نادراً ما يتركون أثراً كتابياً في حياتهم، من دون أن ينتبهوا لأهمية تدوين التّاريخ، ليس للجزائريين فقط، ولكن لغير الجزائريين أيضاً، الذين يتابعون ما يجري في بلد المليون ونصف المليون شهيد، وهذا واحد من أسباب أخرى تجعل من الجزائر بلداً مهيئاً للشّائعات، ولتضارب الحقائق.
عام 1971، سيستقر لعرابي بعض الوقت في الكويت، للمشاركة في تأسيس «الصّندوق العربي للتّنمية الاقتصادية»، وهو العارف بشؤون العرب الاقتصادية، فقبل ذلك التّاريخ، كان قد قضى عشر سنوات في رحلات مكوكية بين العديد من الدول منها مصر والعراق وسوريا وغيرها.
|
العرب والتنمية
في تلك الفترة كانت العلاقات الجزائرية-الكويتية في أفضل مستوياتها. «كانت الكويت قد ساهمت بشكل فعاّل في الاقتصاد الجزائري، وضخّت خصوصاً أموالاً في الاستثمار في قطاع المحروقات» يذكر لعرابي. وكان حكّام الكويت، آنذاك، يفكّرون في أن تكريس مكانة البلد في العالم العربي ستتجسد بلعب دور في القطاع المالي، هكذا ساهموا بما يقارب المليون دينار كويتي في الصّندوق العربي، ليجعلوا منه أهمّ هيئة مالية في الوطن العربي، ووضعوا بين أيديهم مؤسسة اقتصادية سترفع من قيمة الكويت، وتجعل منها عنصراً مهما في المحيط العربي، مستفيداً من ضعف مساهمة دول أخرى فيه، وحصل هذا في فترة عرفت فيها أسعار البترول قفزة نوعية، تضاعف فيها سعر البرميل خمس مرّات عمّا كان عليه من قبل.
وظيفة لعرابي في الصّندوق العربي للتّنمية الاقتصادية ستسمح له بزيارة بيروت، قبيل الحرب الأهلية، بيروت الكوسمبوليتية، بتعدّدها العرقي والثّقافي، هناك سيلتقي أنتلجنسيا المرحلة، وبعض المبدعين العرب، مثل محمود درويش، أو السودانيين الشّاعر الفيتوري والرّوائي الطّيب صالح، اللذين التقاهما في بيت الكاتب والصّحافي الفلسطيني أحمد سعيد المحمدية، مؤسس «دار العودة».
وخلال تجربته في المشرق، سيصطدم لعرابي بنظرة العرب الهجينة للجزائريين. «يعتبروننا عرقاً غير نقيّ. لا نحن عرب ولا أمازيغ ولا فرنسيون ولا أوروبيون» يقول، عرقية وسط، تجمع الكلّ لتنتج فرداً مختلطاً، بحسبهم، هذا الأمر أزعج كثيراً الرّاحل، الذي فشل في شرح طبقات التّاريخ والصدامات الطويلة التي تعيش فيها الجزائر، من زمن الرّومان إلى ما بعد الفرنسيين، مروراً بالوندال والفتح الإسلامي والعثمانيين.
تاريخ الهاشمي لعرابي الشّخصي أشبه بتاريخ الجزائر. فقد عاش حياة شتات، في ترحال مستمر حول أقاليم الأبيض المتوسط، كان أمازيغياً ومعرباً، كان يتقن الفرنسية وقلقاً، كان ملتزماً بحياة «محاسب»، دقيق في حساباته، وحالم، متابع جيّد لكلّ ما يحصل من تحوّلات في ثقافة البلد، كان صدامياً في مواقفه، وفي تحاور مع العالم، عاش 87 سنة ولم يتعب، سوى في الأشهر الأخيرة من حياته.