النظام المصري وسياسة الكتمان

الرئيس عبدالفتاح السيسي لا تستهويه الضغوط وسياسة رؤساء سابقين كانوا يجدون في تغيير حكومة أو استبدال وزير مسكنا لإطفاء غضب المواطنين وامتصاص ضيق ينجم عن ارتفاع الأسعار واتساع نطاق الأزمات المعيشية.
الاثنين 2021/12/06
فلسفلة نظام حكم جديدة

ينتظر الكثير من المصريين تغييرا كبيرا منذ فترة في الحكومة والمحافظين وكبار المسؤولين في قطاع الإعلام، والإعلان عن موعد إجراء انتخابات المحليات.

سادت أجواء من التفاؤل، وتزايدت التخمينات حول التغيير الفترة الماضية مع اقتراب بدء العمل في العاصمة الإدارية بشرق القاهرة، وبعد حدوث فراغ في وزارتين، حيث استقال وزير الدولة للإعلام ثم جمدت أو أقيلت ضمنيا وزيرة الصحة، ولم يحدث التغيير في أي من المستويات المستهدفة، أو حتى سد الفراغ في الوزارتين.

يشير عدم حدوث ذلك إلى أن الرئيس عبدالفتاح السيسي لا تستهويه الضغوط، وسياسة رؤساء سابقين كانوا يجدون في تغيير حكومة أو استبدال وزير مسكنا لإطفاء غضب المواطنين وامتصاص ضيق ينجم عن ارتفاع الأسعار واتساع نطاق الأزمات المعيشية.

لا يزال ارتفاع الأسعار مستمرا ولم تتوقف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية من دون أن يلجأ السيسي إلى سياسة تغيير وجوه الوزراء وتعيين رئيس جديد للحكومة وفقا لسياسة كانت كفيلة بإطفاء نار هنا وتهدئة هناك.

ووسط الأوقات التي يبدو فيها التعديل حتميا تتواصل حلقات الكتمان، فحقيبة وزير الدولة للإعلام لم يشغلها أحد وغير معروف استمرار الوزارة من إلغائها، ووزارة الصحة وُضعت تحت إشراف وزير التعليم العالي.

يتجاوز الكتمان الذي يحرص عليه الرئيس السيسي إشكالية الإعلان عن تعديل وزاري أو تبديل مسؤول، ووصل الأمر إلى أن الكثير من المشروعات التنموية لا يعرفها العديد من الناس سوى عند افتتاحها أو في أثناء مرورهم بالصدفة بالقرب منها

أخفقت جميع التكهنات في توقع حدوث تغيير وضربت مواعيد بلا طائل، وخيّب السيسي ظنون من اعتقدوا أنهم على علم بما يجري في كواليس مؤسسة الرئاسة من تطورات وأسرار، فلا أحد يعلم متى يحدث التغيير وما هي آلياته ومعاييره وتوقيتاته، وإذا سألت أحدهم لن تحصل على إجابة، فقد بات الأمر في جعبة الرئيس وحده.

انتهى زمن جس النبض والإمعان في التسريبات التي تأتي من جهات مختلفة لقياس توجهات الرأي العام حيال اسم رئيس حكومة أو وزير، فقد كان الرئيس حسني مبارك بارعا في هذه السياسة عندما يريد تعيين وزير ويخشى من رد الفعل السلبي حوله، فيمنح أحد الصحافيين القريبين منه حق تسريب خبر التعيين وينتظر معرفة التقديرات، فإذا جاءت التعليقات مواتية يصدر قراره بالتعيين أو يتجاهله إذا كانت عكسية.

أصبح هذا الاختبار سهلا في عصر طغيان مواقع التواصل الاجتماعي وتستخدمها منصات في بعض القضايا السياسية، مع ذلك نادرا ما يلجأ النظام المصري إلى هذه الحيلة، ما يضاعف من صعوبة التوقعات، فالحديث عن التغيير على بعض المواقع الخاصة لا يعني أنه على مرمى بصر، واختفاؤه من وسائل الإعلام الرسمية لا يعني أنه بعيد المنال.

اختلفت سياسة الاختيار والتوازنات السياسية الملحقة بها، واختلفت معها طريقة التغيير الذي لم يعد يتم بالقطعة أو عند أول منعطف حاد يواجهه مسؤول كبير، فقدرة النظام على تحمل صدمات وإخفاقات المتعاونين معه ارتفعت كثيرا، كما أن الاستثمار في ذلك أو توظيفه سياسيا تراجع بصورة واضحة.   

تشير عملية تغيير المسؤولين في مصر إلى جانب مهم في فلسفة النظام الحاكم تمنحه خصوصية عمن سبقوه من أنظمة متباينة كانت هذه السياسة جزءا أصيلا فيها، واعتبرتها ضمن أدوات العقاب أو الثواب، ما جعل شخصيات عدة لا تملك رفاهية التيقن من البقاء في مناصبها إلى اليوم التالي.

كشفت عملية إقالة وزير الداخلية الأسبق اللواء حسن الألفي عقب حادث الأقصر في نوفمبر 1997 وراح ضحيته العشرات من السياح الأجانب عن سرعة في العقاب، حيث جرت الإقالة من قبل الرئيس مبارك على الفور دون انتظار نتائج التحقيق في الحادث، وهي كافية لمعرفة الوسيلة العاجلة التي كان يتم بها التغيير في حينه.

وقعت أحداث مؤسفة الفترة الماضية في قطاع السكك الحديدية ولم يلجأ السيسي إلى إقالة وزير النقل اللواء كامل الوزير، ليس لأنه ينتمي إلى المؤسسة العسكرية، بل لأن هذا القطاع مترهل منذ فترة طويلة ولن تتوقف فواجعه إلا بعد إصلاحه تماما، وعند تغيير وزير النقل الحالي سيتوقف مشروعه الإصلاحي ويأتي آخر يواجه حوادث قد تكون أشد بشاعة.

عُرفت وزارة النقل دوما بأنها أكثر الوزارات التي لا يعمر فيها وزير، والإقالة السلاح الأوفر حظا لتهدئة الناس، ويؤكد توقف هذه السياسة وجود تغير في توجهات الحكم نحو محاسبة الوزراء والتعامل مع المسؤولين، لها جوانب سلبية وأخرى إيجابية.

تشير عملية تغيير المسؤولين في مصر إلى جانب مهم في فلسفة النظام الحاكم تمنحه خصوصية عمن سبقوه من أنظمة متباينة كانت هذه السياسة جزءا أصيلا فيها

من السلبيات أن الوزير قد يستمر في موقعه على الرغم من ارتكاب كوارث في وزارته بما يمنحه ثقة مفرطة في الهروب من العقاب السياسي، إذ تولد لدى كثيرين يقين بأن تغيير الوزراء وتدويرهم لا يلقى هوى عند مؤسسة الرئاسة في مصر.

تنطوي إيجابيات الاستمرار مع وقوع أخطاء، على إشارة ظاهرة بمنح الفرصة للإصلاح، وأن كثافة المشكلات وتوارثها يقللان من حجم المسؤولية، وهو توجه هدفه معالجة إحجام الكثير من الكفاءات عن قبول مناصب رفيعة خوفا من دفع ثمن باهظ.

يتجاوز الكتمان الذي يحرص عليه الرئيس السيسي إشكالية الإعلان عن تعديل وزاري أو تبديل مسؤول، ووصل الأمر إلى أن الكثير من المشروعات التنموية لا يعرفها العديد من الناس سوى عند افتتاحها أو في أثناء مرورهم بالصدفة بالقرب منها.

يعتقد البعض أن انتماء السيسي للمؤسسة العسكرية أسهم بدوره في الإسراف في سياسة الكتمان، ويتجاهل هؤلاء أن ثلاثة من الرؤساء المصريين السابقين (عبدالناصر والسادات ومبارك) خرجوا من هذه المؤسسة أيضا وكانوا أكثر ليونة وأقل كتمانا، وتعاملوا وبدرجات متفاوتة مع عملية التغيير العام كأداة لامتصاص غضب الناس من خلال وضع الخطأ على عاتق المسؤول لتبرئة النظام.

يقول آخرون إن الابتعاد عن الاستعانة بهذا المنهج في عهد السيسي يحمله وحده التبعات السياسية، وعدم اعتماده على لعبة التغيير لدغدغة مشاعر الناس وتطويق غضبهم يضع المسؤولية على عاتقه ويجعل الانتقادات موجهة إليه مباشرة.

سواء أكان هذا المنهج ثقة أم لخلق صورة ذهنية توحي بالقوة لدى الرأي العام في الداخل والخارج، ففي الحالتين لم يعد الكتمان الزائد يتسق مع تجاوز مرحلة تأسيس الجمهورية الثانية التي بشر بها الإعلام المصري، والتي تحتاج إلى خطوة جريئة نحو إدخال إصلاحات سياسية باتت ضرورية أكثر من أي وقت مضى.

يمكن أن تكون التغييرات التي طال انتظارها في الحكومة ومؤسسات متباينة واحدة من علامات التحول الحقيقي في مصر لتجيب على تساؤلات سياسية معلقة في رقبة النظام الحاكم، لأن الإصرار على الكتمان يقلل من التفاف الناس حوله، فهم بحاجة سريعة إلى إجابات شافية للقاعدة الإعلامية الشهيرة للخبر، ما ومتى وأين وكيف ولماذا.

9