الموصليون يرممون مجد مدينة الكتب والمكتبات

الدواعش لا يقرأون ويخافون من الكتب ويتهمون المثقفين بالزندقة، لذلك حاولوا حرق المكتبات العامة والخاصة، لكن الكتب لا تموت، فبعد دحرهم من المنطقة يحاول أصحاب المكتبات الشخصية جمع ما يمكن جمعه من كتبهم لتعود الموصل كلها مكتبة كما كانت من قبل.
لم يتضرر إنسان الموصل وأبنية المدينة العريقة ومعالمها من احتلال داعش فقط، وإنما طال الضرر والأذى والحرق والتدمير مكتباتها العامة والخاصة، وقد وصف أحد مؤرخي هذه المدينة الموصل بأنها كلها مكتبة.
ولا تنفرد الموصل وحدها بهذا الوصف بين المدن العراقية، فهناك بغداد والنجف والبصرة وسوق الشيوخ في ذي قار وغيرها، لكنها انفردت بين جميع المدن العراقية بالأذى الكبير الذي أصابها وإنسانها ومعالمها التاريخية الموغلة في القدم.
ولم يشعر الموصليون بالخوف والقلق كما شعروا بهما خلال سيطرة داعش على المدينة، إذ كانوا ينتظرون صدور الأوامر من التنظيم الإرهابي بإحراق مكتباتهم الخاصة، خصوصا بعد تعرض مكتبة المؤرخ الموصلي الكبير سعيد الديوه جي، التي كانت قد أودعت بعد وفاته في مركز دراسات الموصل.
واحتفل المثقفون الموصليون بهذا الإيداع الأربعاء 23 أبريل سنة 2014 أي قبل قرابة شهر ونصف الشهر من غزو الدواعش للموصل وسيطرتهم على محافظة نينوى، إذ أقدموا على حرق المكتبة عن بكرة أبيها لأنهم يعرفون ما فيها من الكنوز فهي تضم قرابة 10 آلاف كتاب في موضوعات التاريخ والأدب والجغرافيا والآثار والاقتصاد وتعد من أنفس مكتبات الموصل الخاصة، كما أن مكتبات شخصية كثيرة في المدينة أحرقت بالفعل.
ويعدد أستاذ التاريخ الحديث في جامعة الموصل إبراهيم العلاف لـ”العرب” أهم مكتبات المدينة التي دمرت وأحرقت، فيقول إن من بينها مكتبات الفنان والنحات طلال صفاوي في بيته، وشاعر الحدباء عبدالوهاب إسماعيل في داره وكانت تضم أنفس دواوين الشعر وكتب النقد والأدب كما أن فيها مجلدات جريدة “الحدباء” الموصلية، التي استمرت في الإصدار طيلة السنوات من 1975 إلى 2003.
وأكد أنه يذكر الكثير من المكتبات الشخصية التي أحرقت ودمرت في مدينة الموصل ومحافظة نينوى، كمكتبة الباحث في مركز دراسات الموصل محمد نزار. ويروي العلاف “قبل أيام كنت أتحدث مع الباحث في الآثار والتراث جنيد الفخري هاتفيا، فوجدته حزينا على مكتبته لكني سمعت أن عددا من الشباب استطاعوا إنقاذ ما أمكنهم إنقاذه من هذه المكتبة”.
وكتب الشاب عمر علي عن كيفية استعادته ورفاقه جانبا من مكتبة الفخري من عبث الدواعش، إذ ابتدأت القصة يوم 17 مايو 2017 عندما كان يعمل مع صديق له على مساعدة أحد أصدقائهما في نقل أثاثه وتوفير ملاذ آمن له في الجانب الأيمن من الموصل وفي مكان قريب من قصر الحاج توفيق أفندي، حيث يقيم الفخري، وهو قصر تاريخي عمره 200 سنة يحتوي مكتبة مذهلة تضم كنوزا من الكتب والمصادر والوثائق وأشرطة الكاسيت واللوحات الفنية، واستطاع هذان الشابان إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مكتبة الفخري التاريخية.
وعندما دخل هذان الشابان لإنقاذ الكتب، دخل شخص وقال لهما إن هذه الكتب لشخص ملحد نبحث عنه لننفذ فيه الحكم الشرعي، وهو القتل لأنه زنديق، وبعد خروج هذا الرجل جمع الشابان كتب المكتبة وقسماها بين الأصدقاء للحفاظ عليها، وكانا فرحين بقرارهما الحازم بالحفاظ على هذا الإرث وإيداعه في مكان آمن وللأسف تعرض جزء منه للدمار في منزل احد الشبان الذي تهدم جراء القصف.
ويروي موصليون بألم قصصا مثيرة ومحزنة عما جرى للمكتبات الشخصية من دمار وتخريب، لكن المفرح، كما يقول العلاف، أن بعض أصحاب المكتبات الشخصية من أبناء الموصل وأبناء العراق ومنهم من يعيش خارج العراق وآخرون في داخله بدأوا، منذ طرد الدواعش من المدينة، يتبرعون بالكتب. والعلاف، شخصيا، استقبل
تبرعات ثلاث مكتبات وأودعها في مكتبة مركز الدراسات الإقليمية بجامعة الموصل، وهي مكتبات نبيل الحيدري من قناة سوا، والخبير النفطي سعدالله الفتحي والمربي طارق البكري.
ومن أشهر المكتبات الشخصية في الموصل، مكتبات الدكتور محمد صديق الجليلي، والعلامة سعيد الديوه جي، وبهنام حبابة، والدكاترة عمر الطالب، وإبراهيم العلاف وهاشم الملاح، فضلا عن مكتبتي يوسف ذنون وبسام الجلبي.
ومعظم هذه المكتبات موجودة في دور أصحابها أو في بناية خاصة خصصها لها أصحابها مثل مكتبة الدكتور داود الجلبي، فيما نقلت بعضها إلى المكتبة العامة التابعة لمحافظة نينوى أو المكتبة المركزية التابعة لجامعة الموصل أو مكتبة مركز دراسات الموصل.
وبالكاد وافق الباحث في الآثار جنيد نعمان الفخري على أن يتحدث عن مكتبته، فهو يقول إنه يشعر بالغصة عندما يتذكر ما جرى لها وما فقده منها، وإنه مازال يحاول البحث عما تبقى منها لأن الدواعش حاولوا إحراقها، ودعوا الناس إلى أن يأخذوها ليستعملوها كمادة للحرق والتدفئة. ويشير إلى أن قسما كبيرا منها أتلفه الركام والأمطار والتدمير الذي طال بيوت منقذيها.
وبدأ الفخري في إنشاء مكتبته الخاصة سنة 1968، أما مكتبة أسرته فهي أقدم بكثير، لكن أكثرها أحرقته عصابات اقتحمت منازل الموصل بعد أن تركها أصحابها هربا بحياتهم، ثم أحرقت تلك العصابات المنازل لإخفاء جريمتها.
وكانت مكتبة الأسرة ومكتبة الفخري الخاصة يرتادهما عاشقو الثقافة وطلاب الدراسات العليا والباحثون، ويجدون أبوابها مشرعة أمامهم للاستعارة، إذ كانتا تحويان جميع أنواع المخطوطات من مصاحف وكتب دينية فقهية وشرعية، بالإضافة إلى منشورات مطبعة الدومنيكان، التي صدرت في الموصل قبل أكثر من 250 سنة، وكانت أول مطبوعات تصدر في المدينة، وكذلك أحدث ما أصدرته دور النشر باللغتين العربية والإنكليزية، وكل ما أصدرته دار الأديب في عمان للفنانين العراقيين من كتب وأطالس تضم لوحاتهم.
ويقول الفخري “كنت أقتني أقدم لوحات أستاذي الراحل نجيب يونس، والفنانين راكان دبدوب ولوثر ايشو، وتضم مكتبتي 20 لوحة من أندر أعماله وآخر لوحة رسمها قبل وفاته، كذلك 24 لوحة ومجاميع من تخطيطات الفنان الراحل ماهر حربي وتوثيقه للموصل، ولوحات الفنانين بشير طه وإسماعيل حمو وليث عقراوي وبلال راكان وضرار القدو وغيرهم الكثير”.
ويتحدث بأسف عن مهرجان في الموصل أقامته منظمات في المدينة تحت عنوان “أنا عراقي.. أنا أقرأ”، وتبين أن كل الكتب المعروضة فيه مسروقة من بيوت ومدارس موصلية خلال الأحداث الدامية.