الموسيقى الصاخبة لغة خطاب لجيل متمرد على كل ما حوله

يميل جيل الشباب من كلا الجنسين إلى الموسيقى الصاخبة حيث سيطرت على عقول البعض منهم، وهم الذين يرون فيها تعبيرا عن الاختلاف والتميز والتفرد. وفي المقابل يربط علماء النفس بين حب نوع معين من الموسيقى وطريقة تفكير الأشخاص وصفاتهم.
الجزائر – لامست أنواع عديدة من الموسيقى الغربية الصاخبة ذائقة الشباب العربي من الراب إلى الروك والبوب، حيث تشهد رواجا كبيرا في أوساطهم، فهناك من يراها نوعا من المدنية والتحضر ومواكبة للعصر الجديد، فيما وجد فيها البعض الآخر مرآة عاكسة لأوضاعهم النفسية، بينما يقول أخصائيون إنها محاولات للتجرد والهروب من الواقع.
ويميل جيل اليوم إلى الاستماع والرقص على إيقاعات الموسيقى الصاخبة، ويقول نورالدين طالب الثانوية العامة في مدينة الجزائر (19 سنة) “نحن كشباب نعلم أن ذلك النوع من الموسيقى الصاخبة ذات النمط الغربي لا يمت بصلة لعادتنا وتقاليدنا، ولكن وبالنسبة إلي أتذوق كل أنواع الموسيقى، وتعلقنا بالموسيقى الغربية لا يعني أننا تخلينا عن تراثنا، فالكثير من الشباب لا يزالون يميلون إلى الأغاني الشعبية”.
وتعني الموسيقى بالنسبة إلى الكثيرين الطاقة والإثارة والمتعة، ويرون أنها في بعض الأوقات تصبح أجمل عندما يستمعون إليها بصوت أكثر ارتفاعا.
سيطرة على العقل
الذوق الموسيقي يتغير مع الزمن، إلا أن طريقة التفكير والمشاعر تحدد نوع الموسيقى التي يحبها كل شخص
وتشهد أنواع الموسيقى الصاخبة رواجا كبيرا عند الشباب من كلا الجنسين على حد سواء، وتقول نوال المكرمي الموظفة في أحد البنوك الجزائرية “لقد سيطرت الموسيقى الصاخبة على عقول الشباب بمن فيهم الإناث، فابنتي مثلا ذات 16 سنة مولعة بالموسيقى الصاخبة التي لا تهدأ متى دخلت البيت، وهو حال الكثير من صديقاتها”.
وترى أن ذلك “الإيقاع الموسيقي بات فعلا يهدد عاداتنا وتقاليدنا، خاصة وأنه تسلل إلى الأعراس، فالجميع لا يتوانى عن الرقص على إيقاعات الموسيقى الغربية الصاخبة في جو مظلم”.
ويفسّر البعض من الشباب ميلهم إلى الاستماع إلى الموسيقى الصاخبة كتعبير عن الاختلاف عن الأجيال الأخرى، ويبدو أن الموسيقى تتحول إلى سلاح يستعمله الشباب لكسب صراع الأجيال، صراع مع الأجداد والآباء حول الرغبات والميول والعادات والتقاليد الاجتماعية.
ويوضّح الأخصائي النفسي وليد بينوس أن هذا الهوس بالموسيقى الصاخبة مرحلة ظرفية تأتي في فترة عمرية محددة وهي مرحلة المراهقة، ومن ناحية أخرى وبما أنها طريقة من طرق التعبير عن الاختلاف عن الأجيال السابقة فإن هذا الميل يتغير مع تغير العرض، فأي عرض موسيقي جديد سرعان ما يتحوّل إلى ظاهرة اجتماعية، وعلى سبيل المثال تحول البوب من مجرّد ظاهرة موسيقية ليصبح ظاهرة اجتماعية أصحابها يتميزون بطريقة محددة للتعبير.
وتنبعث الموسيقى الصاخبة من مشارف البيوت ومن المقاهي والسيارات وأماكن السهر. ويشبّه بينوس تأثير هذا النوع من الموسيقى في النفس بما تفعله مختلف الميولات الأخرى من مشاهدة أو مطالعة، ويقول “الاستماع إلى هذا النوع من الموسيقى أو ذاك يرتبط بأحاسيس الفرد وتصوراته وبعالمه الخيالي الخاص به وتفضيل الشباب للموسيقى الصاخبة هو وسيلة للتميز والاختلاف عند الجيل السابق”.
ويربط البعض بين حياة الصخب التي يعيشها الشباب اليوم بتأثير الأحداث السياسية ودور الواقع العربي بما هو واقع انكسارات وخيبات ساهمت في دفع الشاب إلى التفاعل مع الموسيقى الصاخبة، لكن بينوس يعتبر أن هذا الكلام غير دقيق، وأن هذه الظاهرة ليست مقتصرة على البلدان العربية فحسب، إنما هي ظاهرة عالمية لكل الشباب في مختلف أنحاء العالم، حيث يميلون إلى الموسيقى الصاخبة والبحث عن مجموعات موسيقية يبحثون فيها عن نموذج يعجبون به ويحاولون تقليد تصرفاته وحركاته.
الموسيقى الصاخبة تعزز الحواس وتنعكس على نشاط الجهاز العصبي، لذلك تستعمل في أناشيد السلام الوطنية
وراجت لدى البعض فكرة التطهير من خلال الموسيقى، لأنه يمكن معرفة الكثير عن الشخص عن طريق ذائقته الموسيقية، خاصة أولئك الذين يفضلون الموسيقى الصاخبة، إذ ربما تكون لديهم مواقف مضادة للسلطة ورغبة كبيرة في التمرد، بالإضافة إلى أن الموسيقى الصاخبة تعزز الهوية الذكورية، حيث ترتبط الذكورة بالنشاط والخطر، في مقابل الأنوثة التي ترتبط بالهدوء والسكينة.
وتعزز الموسيقى الصاخبة الحواس وتنشط العواطف، وينعكس ذلك على نشاط الجهاز العصبي، لذلك تستعمل في السلام الوطني، والمناسبات السياسية والثورية، لأنها تؤكد تماسك الجموع وتزيل الموانع العرقية وتحسن الأجواء الاجتماعية.
ويرى البعض من الشباب في الموسيقى الصاخبة نوعا من التميز والديناميكية ما يجعلهم يحرصون أن يكون صوتها مدويا كلما قرروا قيادة السيارة، فهي شكل من أشكال التفاخر، وتجعل الشاب محط أنظار الجميع، وقد تكون وسيلة البعض للإيقاع بالفتيات بحسب ما عبر أحمد (20 عاما)، قائلا “إنها الحضارة التي لا يمكن أن نعيش بدونها”. وأكد أن هذا النوع من الموسيقى علامة على مواكبة العصر ونحن في القرن الحادي والعشرين، ويجد فيها مجرد وسيلة للتسلية والترفيه ولا داعي للمبالغة في الحديث عن أي خطورة في انتشارها وسط الشباب، فهي مجرد موسيقى للترويح عن النفس ولا يمكن أن تكون خطيرة كما يزعم البعض.
وتؤكد غالبية الشباب المولعين بالموسيقى الصاخبة أنها طريقة من طرق الهروب من المشاعر السلبية والأفكار غير المرغوب فيها، فإنها تخلق مساحة سمعية جديدة أو بيئة موسيقية إيجابية تنقل المستمع من بيئته اليومية.
وتسيطر الموسيقى الصاخبة على العقل، لذلك يمكن الاستماع إليها أثناء القيادة أو الأعمال اليومية الآلية التي لا تستدعي التركيز، لكن عند البدء في عمل يحتاج إلى التركيز، سيجد المستمع نفسه يوقف الموسيقى الصاخبة، لأنها تسيطر على الحواس والتفكير، لذلك قد يصبح الاستماع إليها في بعض الأوقات تجربة ينصح بها علماء النفس، لأنها تغمر الجسم بهرمون الدوبامين الذي يطلق مشاعر النشوة والسعادة داخل العقل.
وأثارت مسألة الذوق الموسيقي اهتمام علماء النفس الذين حاولوا اكتشاف الصلة بين حب نوع معين من الموسيقى وطريقة التفكير.
اتجاهات مختلفة
وأجرى باحثون في جامعة كمبريدج دراسة شملت أربعة آلاف شخص حاولوا رصد جوانب مختلفة من شخصياتهم من خلال قائمة أسئلة أعدها خبراء في علم النفس. وبعد ذلك استمع المشاركون في الدراسة إلى 50 مقطوعة موسيقية تمثل 26 اتجاها موسيقيا مختلفا، طلب الباحثون من كل شخص اختيار المقطوعات التي تعجبه.
وجاءت نتائج الدراسة التي نشرتها مجلة “بلوس وان” المتخصصة مفاجئة للباحثين، إذ أظهرت أن الأشخاص الذين يتمتعون بقدر كبير من الحساسية والتعاطف مع الآخرين يميلون إلى الموسيقى الناعمة والألحان والكلمات الحزينة. أما بالنسبة إلى أصحاب الشخصية العملية فكانوا أكثر ميلا إلى الموسيقى الصاخبة.
وقال ديفيد غريبنبرغ المشرف على الدراسة في تصريحات نقلها موقع “سينيكس”، “رغم أن الذوق الموسيقي يتغير مع الزمن، إلا أن طريقة التفكير والمشاعر تحدد نوع الموسيقى التي يحبها كل شخص”، مشيرا إلى أن قائمة المطربين المفضلين لشخص ما تكشف الكثير عن شخصيته أكثر مما يعتقد البعض.
ولا تعني نتائج الدراسة أن كل من يفضلون نوعا معينا من الموسيقى يتشابهون في ميولهم الشخصية، إذ أن هناك العديد من الأشكال المتنوعة داخل كل تيار موسيقي معين. فمن الممكن أن يجتمع أصحاب شخصيات مختلفة على موسيقى الجاز مثلا، لكن أصحاب الشخصيات العاطفية ستجدهم يميلون إلى مقطوعات الجاز المفعمة بالمشاعر، في حين يميل أصحاب الشخصيات الديناميكية إلى مقطوعات الجاز الأكثر تعقيدا.
وعقب جاسون رينتفرو، أحد القائمين على الدراسة، على النتائج قائلا “تؤكد هذه الدراسة أن الموسيقى هي مرآة لشخصياتنا (…) فهي تعكس مشاعرنا وتوجهنا الاجتماعي”.
وتعزز الموسيقى المشحونة عاطفيا في بعض الأحيان مشاعر المستمع عند تشغيلها بصوت أعلى، وقد تصبح الصور التي تتدفق إلى العقل أكثر حيوية، مما يؤدي إلى تكرار تجربة الاستماع إلى نفس الموسيقى بأصوات أكثر ارتفاعا.
وما يزيد من إقبال الشباب على تلك الموسيقى الصاخبة هي حالة التهميش الذي يمكن أن يعيشوا فيه، فمن خلال تلك الموسيقى يريدون لفت الانتباه إليهم وعلى أنهم كيان مستقل، محاولين بذلك إثبات وجودهم، كما تشير دراسات من خلال الجلسات والتحاليل النفسية إلى أن جل الشباب المولعين بنوع من الموسيقى الغربية يعانون تهميشا أسريا وما يتبعه من فراغ عاطفي يحاولون ملأه من خلال تلك الإيقاعات.
ويؤكد محي الدين أحد محترفي رقصات الراب والطالب جامعي بكلية الإعلام أن تلك الأغاني الغربية ليست مقتصرة على الجزائر فقط، حيث يقول “كل الشباب العربي يميلون إلى الموسيقى الصاخبة ولكن محترفي الراب في الجزائر مثلا يريدون تكييف تلك الموسيقى الغربية مع أغان تعكس مشاكل الشباب الجزائري وتحاول التعبير عنها من خلال تلك الحركات التي تتضمنها الرقصة في حد ذاتها”.
ويضيف أن المتغيرات الاجتماعية لمستمعي الموسيقى الصاخبة تختلف حسب الجنس والمستوى التعليمي، فلا فرق يذكر بين جامعي وصاحب مستوى تعليمي ابتدائي، ويقول “أنا ورفاقي شكلنا فريقا للراب داخل الجامعة، هناك من يتقبلنا ولكن البعض يرمقنا بنظرات غريبة”، مشيرا إلى أن تلك الموسيقى تضفي جوا حيويا عند الجميع، بل منهم من يرى فيها هروبا من المشاكل والروتين الذي يعيشه.
وعن أحاسيس الشباب وأسباب ارتباطهم بهذا النوع من الموسيقى، توضح إكرام السهلي الأخصائية النفسية أن ذلك الهوس الشديد بالموسيقى الصاخبة في الحقيقة مرتبط بمراحل عمرية محددة ترافق سن المراهقة، لأن الإنسان كلما تقدم به السن يشعر بحاجة أكثر إلى الهدوء.
وترى من تلك الرقصات المرافقة للموسيقى أنها طريقة من طرق التعبير عما يختلج في صدور الشباب والذي يكون أحيانا بطريقة لا إرادية، فالموسيقى مهما اختلفت أنواعها فهي لا تزال ترتبط بمشاعر الإنسان ومختلف تصوراته للأشياء.
وإن زاد عدد الشباب المولعين بذلك النوع من الموسيقى الغربية الصاخبة، فإنه يوجد من يرفضها جملة وتفصيلا ولا يزالون يحنون إلى الموسيقى الرومانسية الهادئة، ويرون في تلك الموسيقى نمطا تقليديا للغرب والذي تعمل على ترويجه العديد من القنوات الفضائية بما فيها العربية.
ولا تخلو الموسيقى الصاخبة من أضرار صحية حيث حذر علماء من أن الشباب الذين يرتادون حفلات الموسيقى الصاخبة أكثر عرضة من غيرهم لظهور علامات مبكرة للإضرار وفقدان حاسة السمع ممّن يعيشون حياة أكثر هدوءاً.
وتوصلت دراسة جديدة أجراها باحثون في جامعة مانشستر إلى أن هذه الأضرار قد لا تكون خطيرة بما يكفي لتشخيصها على أنها “فقدان للسمع” في عمر صغير، ولكن سيكون لها تأثير تراكمي على حاسة السمع في المستقبل.
كما أن منظمة الصحة العالمية أعلنت أن 1.1 مليار مراهق معرضون لخطر التلف أو فقدان السمع “بسبب الاستخدام غير الآمن لأجهزة الصوت الشخصية والتعرض لمستويات ضارة من الصوت في أماكن الترفيه الصاخبة”.
ويشجع العلماء من يتعرضون بشكل متكرر إلى الموسيقى الصاخبة على الخضوع لاختبارات سمع بانتظام والحد من مخاطر الإضرار بحاسة السمع من خلال تجنب البيئات الصاخبة.
وقال الدكتور الذي أجرى الدراسة من مركز مانشستر للسمع والصوت سام كاوث “أظهرت هذه الدراسة بوضوح أن الشباب الصغار الذين يذهبون بانتظام إلى النوادي والحفلات الصاخبة أكثر عرضة للإضرار بحاسة السمع لديهم مقارنة بمن يعيشون حياتهم بهدوء، والموسيقيون تحديداً مهددون بالتعرض للضوضاء الصاخبة بشكل يومي بسبب طبيعة عملهم”.
بدورها قالت رئيسة جمعية طنين كيبيك سيلفي هيبرت “عندما تتعرض الأذن لأصوات عالية للغاية، تتلف خلايا الشعر الحساسة في الأذن الداخلية، وبمجرد أن تتضرر فإنها تزول، ويتم تدميرها ولا تتجدد”. وأكدت لموقع “سي.بي.سي” الأميركي أنه يمكن لأجهزة السمع أن تضخم الصوت، لكن لا يمكنها تكرار وضوح ونوعية الصوت التي توفرها خلايا الشعر.