الموديل

الأربعاء 2017/08/02

لم يعد مستغربا أن يختفي الموديل الحي من أغلب كليات الفنون الجميلة في العالم العربي والإسلامي منذ عقود طويلة، الغريب حقيقة هو استمراره في الوجود، في ظل تراجع مزرٍ عن كل مكتسبات النهضة الحديثة. اختفاء الموديل محصلة طبيعية لتلاشي النموذج الحي واستبداله بالمستنسخات والرواشم في الثقافة المشدودة للماضي، تلك التي تتحول فيها الصورة المتوارثة نفسها (هيكل حجري، صورة فوتوغرافية، لوحة…) إلى موديل.

التكرار المبني على أساس جامد هو جوهر العقيدة الإبداعية المهيمنة على الحاضر العربي، بينما اقترنت فكرة الموديل دوما بالانصهار والتورط، والتباس قيم النقل والتصوير مع مشاعر الانجذاب والفتنة. ولم يكن غريبا أن تشهد عشرات التجارب الفنية تحول الموديل الأنثوي إلى بطلة سيرة عاطفية وإيروتيكية حافلة بالانكسارات والأعطاب والمآلات العنيفة. ولعل أبلغ تعبير عن هذا التولّع تجربة “غوغان” مع موديله التاهيتية ذات الجمال الوحشي، التي خلدها في عشرات الأعمال، من أهمها لوحة “امرأة من تاهيتي”؛ حيث يتجلى الموديل بوصفه جزءا من الداخل العميق للشكل والأسلوب وانحيازات الخيال، شيء مفارق لقاعدة الاستنساخ التي تفترض منذ البداية شطب الرؤية الشخصية والسعي إلى التطابق.

في السنوات الأخيرة ازدهرت على نحو لافت روايات الحدث السياسي والتاريخي وروايات الأقليات وروايات السير المختلفة… نصوص غزيرة ومطنبة وموغلة في المحافظة، تناسلت في تماه كلي مع موديلات نصية واضحة، كرستها الحاجة المستمرة إلى حصار المرويات المتفاقمة في مشهد عربي لا يكف عن اختلاق الأخبار، بشكل يومي متسارع. لكن هذا الموديل الضيق والمكرس لفكرة الاستنساخ سيبلغ ذروته مع ما سمي بـ”جائزة كاتارا لأفضل قصيدة في مدح الرسول”، والتي شكلت في منحاها العام النموذج الأكمل لعقلية التقليد في الثقافة العربية، فقد باتت قصيدة “البردة” منذ زمن نصا لا يتصل بموديل إنساني بذاته وإنما بموديل نصي، من كعب بن زهير إلى البوصيري ومن حسان بن ثابت إلى أحمد شوقي.

ويخيل إلي أنه يستعصي إلى حد كبير اليوم أن نستوعب كتابة من هذا المنوال إلا بوصفها ممارسة لا تنتمي إلى حدود الإدراك المعاصر للأدب والفكر الجمالي، ووظائف الثقافة في المجتمع الحديث، إذ لا يمكن تصور قصيدة في مدح الرسول مترجمة إلى لغات غربية، إلا إذا تخيلنا إمكانية وجود شعريات تستوعب مدائح للمسيح وموسى وبوذا والشيطان في ثقافات أخرى، وهو ما لا يتأتى تمثله إلا باعتباره نتاجا غير جدي وشطحا روحانيا يتم فيه التفكير في الأدب بميزان الحسنات والثواب المفضي بأهله إلى الجنة، وليس بقيم التمثيل الساعي إلى تخطي الموديل الضاغط والمكبل للأسلوب.

كاتب مغربي

15