المهاجرون في أوروبا: حملات التطرف تضعهم في قلب أزمة اللاجئين

الثلاثاء 2016/06/21

شهدت مسيرة الهجرة العربية في فرنسا تحولات هامة منذ بداية القرن العشرين، وترجع بداياتها إلى قدوم عمال مغاربة وجزائريين للعمل في مناجم الشمال ومنطقة النورماندي، ثم تكرست الهجرة المغاربية مع استقدام فرنسا لـ300.000 جندي من المغرب العربي إبان الحرب العالمية الأولى، وبتشغيل 130.000 عامل مغاربي محل العمال الفرنسيين الذين ذهبوا إلى جبهات الحرب، كما أن مشاركة طلائع الهجرة المغاربية الأولى إلى جانبهم خلفت مقتل 3000 شخص، مما حدا باعتراف الجمهورية الفرنسية بدفاعهم المستميت عنها وبلائهم الحسن، وكان له أبلغ الأثر في إجماع الفرنسيين على بناء مسجد باريس في العام 1926 كاعتراف رسمي من الجمهورية بأفضالهم.

واتساقا مع هذا المنحى، عمدت الصناعة الفرنسية إلى استقبال أعداد كبيرة من المهاجرين في سنوات الخمسينات والستينات، لكن السلطات الفرنسية وضعت حدا لها، وذلك بتفضيل تشجيع الهجرة العائلية في السبعينات من القرن الماضي.

وتشير إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية في يناير 2015 إلى أن أرقام الهجرة لم تتغير كثيرا عن المعتاد في فرنسا، وهي بذلك تحتل المرتبة السابعة عالميا في استقبال الهجرة.

إذا كانت إطلالة الهجرة العربية يطغى عليها الطابع الاقتصادي والذكوري، فإن حضور المرأة ترك بصماته جلية في التركيبة الديموغرافية للبلدان المستضيفة.

وتشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن عدد أبناء المهاجرين وصل إلى حوالي 7 ملايين نسمة، أي حوالي 11 بالمئة من عموم السكان، ويمكن اليوم الحديث عن أن أصول كل شاب فرنسي من أصل 4 على أنها ترجع إلى أصول أجنبية. والواقع أن الدراسة الأخيرة التي نشرها معهد الإحصاء الوطني الفرنسي، تشير إلى كون 9 أبناء من المهاجرين يعتبرون أنفسهم فرنسيين من أصل 10، وهم في غالبيتهم يحملون الجنسية الفرنسية (97 بالمئة)، ويعلنون ولاءهم التام لقيم الجمهورية دون إنكار لأصولهم العربية والأفريقية والآسيوية، فيما يحمل أغلبهم شهادات عليا وصلت إلى 38 بالمئة عما كـانت عليه النسبة بالمقارنة مع آبائهم والجيل الثاني (33 بالمئة)، فيما تحسن مستوى دخلهم بكثير، لكنّ مشكلة هذا الجيل تتجلى بإمعان في من لا يريد اعترافا بهم كمواطنين فرنسيين متساوين في الحقوق والواجبات. لذلك ينطوي الحديث عن الجيل الثالث من الهجرة إلى الخروج من التنميطية السائدة، بحيث تيسّر لهم النشوء في المجتمعات الغربية، وامتلاك ناصية التفاعل معها تربية وثقافة ولغة، كما أن انتماءهم المتنوع وفر لهم ثقافة مزدوجة منفتحة على مشارب غنية ومتعددة، أكسبتهم معرفة ثقافة بلدان آبائهم الأصلية، والانخراط التام في مجتمعاتهم الغربية.

ولا يقتصر دور هذا الجيل في هذه المساهمة الغنية والفاعلة، بل تعداه إلى طرح مساحات جديدة حول الرأسمال الثقافي والروحي واللغوي والفني والعلمي لهذه المجتمعات، وهو ما أثرى الحياة الاجتماعية بمطاعمها وأذواقها الجديدة وعطورها وأزيائها وحفلاتها وابتكاراتها، فضلا عن ممارسة أنشطة متزايدة تشارك في نمو أوطانهم، ويبرزون من خلالها مواهبهم الفنية والرياضية والإبداعية.

وما نود التوقف عنده، هو امتلاكهم مؤهلات غنية يمكن أن تسمح بمد جسور غنية بين بلدان آبائهم وأوطانهم من خلال الفرص المتاحة.

وبالرغم من وجود العنصرية، ودفع العديد من وسائل الإعلام الغربية ظهرها للماضي وللأيديولوجيات وتسويقها ألوانا قاتمة عن الغير والآخر، وبما تنحته في المشهد الإعلامي من صور نمطية مثيرة للقلق، فمن الدال أن حضور الجيل الثالث تعدى أن يكون حضور بشر، بل هو اليوم حضور أعمال، وإبداع، وموسيقى، وكتب، ولوحات فنية، ونشاط علمي وثقافي بوسائله المختلفة.

لقد بدا بجلاء أن هذا الجيل الثالث، ومهما كانت التأثيرات السلبية المتعددة التي يتعرض لها، فهو جزء من المشهد العام في الغرب والشرق، وهو يسطر طموحاته بإخفاقاتها ونجاحاتها، بحيث تسمح مواقعه الجديدة بتشكيل صيغة عبور جديدة بين الغرب والشرق عبر نقل وإعادة تشكيل للثقـافات، وهي كناية عن حوار حي لا نهائي.

باتت دول الاتحاد الأوروبي تركز بشكل غير مسبوق على تنامي معضلات الحدود، مثل الهجرة غير الشرعية وتوافد اللاجئين والنازحين الهاربين من جحيم الحروب الأهلية، والإرهاب ومخلفاته من جريمة منظمة وتهريب الأسلحة، حيث أعلنت المفوضية الأوروبية بأنها ستشرط دعمها للتنمية والامتيازات التجارية بوقف تدفق الهجرة غير الشرعية، وهي المرة الأولى التي تلجأ فيها المفوضية علنا إلى التهديد بالعقوبات الاقتصادية لإجبار بلدان الدول الأفريقية والعربية على التعاون في ميدان الهجرة السرية. وقد خلف الإعلان عن هذا الإجراء في الجلسة العامة بمقر البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ بداية الشهر الحالي جدلا صاخبا وأغضب الكثير من النواب الذين اعتبروا أنه لا يتناسب مع ما يجري في ظل بيئة مجاورة تشهد صراعات داخلية مسلحة واستقرارا هشا، خصوصا بعد التدخلات الأجنبية التي زادت من تعقيد الأوضاع وأججت الصراع في هذه البلدان. كما أن ظاهرة اللاجئين القادمين من الشرق الأوسط، هي نتيجة للعنف السياسي، واستمرار عدم معالجة جذور المشكلة يهدد ويؤجج بإشعال وزيادة حدة الحرب الأهلية، والعنف، والصراعات السياسية، كما أن تدفق اللاجئين له عواقب أمنية مهمة على البلد المرسل والمضيف في آن واحد.

وقد سبق لرئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك على هامش لقائه برئيس وزراء اليونان أن انتقد علنية بعض الدول الأوروبية على هامش اتخاذ قرارات أحادية الجانب والتي فرضت تضييقا كبيرا على حركة اللاجئين ومنعتهم من الدخول أو عبور حدودها، بحيث اعتبر هذه القرارات “إخلالا بالتضامن الأوروبي”، وخاصة بعد أن تم اعتراض أكثر من 10 آلاف شخص في مقدونيا في حدودها مع اليونان، والتي رفضت استقبال وزيرة داخلية النمسا بسبب تصريحاتها العدائية حول سياسة اليونان تجاه ملف الهجرة.

وتثير السياسة الأوروبية في ميدان الهجرة إشكاليات عديدة، من بينها ضبط إدارة الحدود من قبل الدول المستقبلة، وليس هذا فقط، بل يتم توظيف ذلك سياسيا من قبل اليمين المتطرف الذي يغذي الخوف لدى المواطنين، ويطالب بنزع جنسية المواطنين الأجانب، كم يلاحظ توجه العديد من أنصار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نحو تلفيق اتهامات العجز لأوروبا بعدم تحكمها في موجات الهجرة غير الشرعية، حيث لم يتورع اليمين المتطرف في النمسا عن المطالبة بعدم تحويل عمليات الإنقاذ البحرية إلى وسيلة للدخول إلى أوروبا. وهو ما صرح به سباستيان كروز، وزير خارجية النمساوي، الذي دعا إلى التحفظ على المهاجرين في جزر بحر الأبيض المتوسط.

وإذا كان الاتفاق الأوروبي – التركي قد ساهم في تقليل حركة الهجرة السورية نحو اليونان، فإنه سرعان ما عادت مشكلة الهجرة عبر الشواطئ الليبية من جديد، وتطرح معها تراجيدية قوارب الموت، حيث أعلن الناطق الرسمي باسم المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بأن الآلاف من المهاجرين فقدوا حياتهم في عرض المتوسط في السنوات الأخيرة.

وبالرغم من الأخطار الكبيرة، فإن أعداد المرشحين للهجرة من ليبيا قد تصل إلى 800 ألف كما صرح بذلك جون ييف لودريان وزير الدفاع الفرنسي، وذلك في ظل وجود علاقة بين تدفقات اللاجئين والصراعات الداخلية في ليبيا، فضلا عن كون تجارة تهريب البشر بدأت تدر أموالا كثيرة تقدر بحوالي 6 مليار يورو في العام 2015، وهو ما دفع أوروبا إلى إنشاء قوة بحرية أطلقت عليها عملية “صوفيا” لاعتراض بواخر الهجرة في يونيو 2015، لكنها لم تحقق الأهداف المنوطة بها، إذ صرح مارتن كوبلر ممثل الأمم المتحدة في ليبيا، بأن “عدم انتشار قوة صوفيا البحرية في المياه الإقليمية الليبية يعوقها عن اعتراض قوارب الموت، فالمهربون لا يمدون هذه القوارب بالوقود الكافي، ويقومون في أحسن الحالات بالاتصال برقم الاستعجال المخصص للطوارئ البحرية في روما، مخبرين عن وصول كذا مهاجرين”.

وفي المقابل، وأمام شدة الضغوط والرهانات السياسية المحيطة بالهجرة وظاهرة اللاجئين والنزوح القسري، وضعت المفوضية الأوروبية برنامج عمل يهدف إلى معالجة ضرورة مزدوجة: سد الباب أمام الهجرة غير الشرعية وفتح باب الأمل للسكان في القارة الأفريقية بفتح طرق شرعية جديدة للهجرة، وذلك حتى لا تنتهي مشقة الهجرة إلى أوروبا بطرد جديد بعد رفض منح حق اللجوء.

باحث بجامعة السوربون

7