المنطقة الرمادية بين القيادة السياسية والحكومة المصرية

تحتاج القيادة السياسية في مصر أن تشرح للناس أين تنتهي حدود قراراتها المصيرية، وأين تبدأ منطقة عمل الحكومة والوزراء وكبار المسؤولين في الدولة، حيث أوجدت بعض المواقف منطقة رمادية حسّاسة، لن يجدَ المصري العادي معها راحة في الاكتفاء بلوم الحكومة أو وزير فيها، طالما أن كليهما مقيّد بما يملى عليه من القيادة السياسية، ويصعب على المواطن القول إن القيادة على صواب أو الحكومة على خطأ، طالما يعلم أن كل شيء محكوم.
سبب هذا الأمر تراكمات من الغضب، فغياب الشفافية يكفي لإيجاد أطنان من التقديرات والتكهنات والتخمينات البعيدة تماما عن الحقيقة، وما تواجهه مصر حاليا، ربما منذ سنوات طويلة، هو معركة قيادة وحكومة وأفراد يجتمعون سويّة على مواجهة أخطار مشتركة، لا تحتمل التحديات التي تواجهها الدولة رفاهية توزيع اتهامات مباشرة أو مبطّنة، يلوكها كثيرون في الشارع عند كل موقف يتم التصرف معه بطريقة لا تلقى ارتياحا لدى شريحة كبيرة من المواطنين، تفتح المجال نحو إثارة أسئلة بلا إجابات، تحرج القيادة السياسية قبل الحكومة وطاقمها من الوزراء وكبار المسؤولين.
ما جرى خلال الأيام الماضية مع شركة “بلبن” من غلق لسلسلة مطاعم تابعة لها، يستوجب ردم المنطقة الرمادية في العلاقة بين القيادة والحكومة، فعندما قررت الثانية الغلق بعد صمت طويل، استغاث ملاك الشركة برئيس الدولة عبدالفتاح السيسي، وتجاوزوا الحكومة كمسؤول مباشر عن قرار الغلق، كأنها لم تفعل شيئا، وجاء موقف السيسي منصفا للشركة في مسألة بحث شكواها، في إشارة توحي بإعادة فتح المحلات التابعة لها بعد اتخاذ إجراءات السلامة الصحية، وهي عبارة فضفاضة، لو تم تطبيقها حرفيا على مطاعم مصر لخرج عدد كبير من العاملين بسبب عدم السلامة.
◄ رئيس الحكومة والوزراء لم يستغلوا المساحة ويملأوا الفراغ الذي تركه تراجع رئيس الدولة قليلا عن التدخل لحل كل كبيرة وصغيرة، وكأن الحكومة خشيت من التصدي لأنها لم تعتد على ذلك
أكدت هذه الواقعة ما يتردد منذ زمن حول محورية دور رئيس الدولة في مصر، وهو دور سابق لنظام السيسي، فالقيادة السياسية، ممثلة في الرئيس تتحكم في مفاصل القرارات، كبيرها وصغيرها، والحكومة والوزراء أشبه بطواقم سكرتارية، قد تكون هذه الصورة زادت لاعتبارات فرضتها تداعيات ثورة يناير 2011 التي أسقطت نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك، وتضخم دور جماعة الإخوان المصنّفة إرهابية في مصر، وتسلل عناصر تابعة لها أو محسوبة عليها إلى دولاب الدولة، علاوة على كثافة التحديات الإقليمية التي تواجهها مصر.
بالطبع لا تلغي مؤامرات الإخوان والأزمات الخارجية تحديد فواصل بين دور القيادة السياسية والحكومة، لأن الدولة نجحت في تخطي صعوبات بالغة، والقضاء على انتشار تنظيمات إرهابية في منطقة سيناء، وارتدادات السيطرة الكبيرة من قبل الأولى ليست هيّنة، إذ أصبح رئيس الدولة مسؤولا عن حل أي مشكلة، مهما كانت صغيرة، وقد يخطئ مسؤول في عدم رصف طريق أو تشييد جسر على غير المواصفات العلمية، فيقال إن السيسي لم يقم بواجبه، وتتعدد المواقف التي أدت إلى مشكلات ولا توجه اتهامات للحكومة فيها. والعرف السائد هو أن رئيس الدولة يتحمل وحده المسؤولية.
أفضى وضع السلطة بكل تفاصيلها في حوزة الرئيس إلى اللجوء إليه لحل أي مشكلة، وازدحم بريده الإلكتروني وحساباته الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي بمناشدات للتدخل لحل مشكلة رجل أعمال مع الضرائب أو أرملة لم تتمكن من صرف معاش زوجها، ما وضع على عاتقه مسؤوليات جسام، ليست من طبيعة مهامه الرئيسية، وارتاحت الحكومة إلى هذه الصيغة، لأنها تحميها من اللوم وتعفيها من تحمل التوابع، وتمثل المنطقة التي تفصل العلاقة بينها وبين رئيس الدولة منطقة أمان لها، تجعلها بعيدة عن الانتقادات والاتهامات التي توجه إلى القيادة السياسية.
ترسخت هذه الانطباعات مع فترة رئاسة السيسي السابقة، وكان فيها يدلي بتصريحات في قضايا مختلفة، ولا أحد يستمع إلى الحكومة أو مسؤول فيها، وأصبح الرئيس المصري أشبه بجهاز إعلامي، يجيب على كل الأسئلة والاستفسارات التي تدور في أذهان الناس حول قضايا متعددة في الداخل والخارج، الأمر الذي أرهقه وربما استنزفه، لأن هناك مهامّ أكثر حيوية ملقاة على عاتقه.
قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية في ديسمبر/ كانون الأول 2023 بدأ السيسي يتحلل تدرجيا من تصدر مشهد المتحدث الإعلامي عن نفسه والدولة، وبعدها زادت المساحة الممنوحة للحكومة والوزراء للحديث والشرح والتوضيح، لكن لم تتقلص المنطقة الرمادية بينهم وبين السيسي، فرئيس الحكومة والوزراء لم يستغلوا المساحة ويملأوا الفراغ الذي تركه تراجع رئيس الدولة قليلا عن التدخل لحل كل كبيرة وصغيرة، وكأن الحكومة خشيت من التصدي لأنها لم تعتد على ذلك، أو لم تكن واثقة في قدرتها على المواجهة.
◄ التحديات التي تواجهها الدولة لا تحتمل رفاهية توزيع اتهامات مباشرة أو مبطّنة. ما تواجهه مصر حاليا ربما منذ سنوات هو معركة قيادة وحكومة وأفراد يجتمعون سويّة على مواجهة أخطار مشتركة
مهما كانت الأسباب التي دفعت الرئيس إلى منح الحكومة مساحة للحركة وعدم استثمار الأخيرة لها، فقد أكدت الحس الشعبي المصري، الذي درج منذ عقود على ألّا يرى في المشهد العام سوى رئيس الدولة، باعتباره الوحيد الذي يستطيع اجتراح الحل، وكل المؤسسات والأجهزة تنصاع لأوامره، ولم تفلح ما يسمى بالدولة العميقة بمصر في عرقلة أي قرار يتخذه أو إجراء يأمر به فورا، وبقيت مؤسسة الرئاسة في مقدمة الجهات التي يستجيب لها الجميع بلا تردد أو تلكؤ.
ساد اعتقاد أن وصول مشكلة إليها من أي جهة، كفيل بأن يؤدي إلى حلها في غضون ساعات، لأنها تحظى بالثقة والنفوذ معا، ولها قدسية في الوجدان العام للمواطنين والجهاز الإداري للدولة، ولن تتمكن جهة حكومية أخرى من منافستها، ما جعل أي تصريحات حقيقية تمنح للحكومة يظل توظيفها واستغلالها والعمل بها سريعا رهينة التعليمات التي تتلقاها من مؤسسة الرئاسة، ما يزيد من علاقة التبعية ويضعف أي محاولة للخروج من هذه الشرنقة، وتيقن الناس أن مفتاح علاج مشاكلهم في يد الرئيس.
إذا تم التسليم بصعوبة تفكيك معادلة القيادة والحكومة والناس، فإن النتيجة استمرار إصابة الجهاز الإداري بالكسل، وحاول الرئيس السيسي التغلب عليه بنعومة عندما لجأ إلى الاستعانة بعدد كبير من قيادات الجيش والشرطة في بعض المهام، فالمسألة تتخطى ما يتردد حول اختزال ذلك في ما يسمّى مكافأة نهاية الخدمة لهؤلاء لما قدموه للدولة خلال عملهم، لأن جزءا مهمّا يكمن في خاصيتيْ الحسم والصرامة اللتين يتمتع بهما العسكريون في مصر.
ومع أن لهاتين الخاصيتين مزايا عديدة في تسهيل بعض الإجراءات، غير أن المشكلة تأتي من انتظار الكثير منهم تعليمات القيادة العليا لاتخاذ القرارات، ما يعني العودة إلى الدائرة الرمادية نفسها، فرئيس الدولة مصدر للسلطات والتبعية التامة له مصدر لحماية كبار المسؤولين أيضا.