المنتج المعماري صورة تعكس أوضاع المجتمع العراقي

ثكنات وعشوائيات.. الخوف والفقر يرسمان مخططات المدن في العراق.
السبت 2021/04/03
مرايا العراقيين

لطالما كانت العمارة العراقية امتدادا للفكر العمراني ونتاجا للظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها العراق. لكنّ العمارة لم تصل إلى هذا المستوى من التردي فإضافة إلى تحول بعض المناطق إلى بؤر للجريمة والفقر تحولت مناطق أخرى إلى ما يشبه السجون.

بغداد - كانت العمارة العراقية حتى سبعينات القرن الماضي امتدادا للفكر العمراني في الفترة الملكية، ونتاجا لظرفها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، قبل أن تعصف بها التحولات السياسية والاجتماعية منذ بداية الثمانينات.

وتمثل المدن مرايا لأناسها، برغباتهم وبجوانبهم المضيئة والمظلمة. فهي تركيبات من هويّات متمايزة وكينونات حيّة لا تتوقّف عن التغيّر، تقصّ علينا حكايا أزمنة انكشف بعضها ومازال بعضها الآخر مستورا؛ حكايات ذكريات وأنظمة منسية.

الذوق العام

أمكنة غير متجانسة
أمكنة غير متجانسة

قبل أن تكتظ المدن، تكونت المنازل في المدن العراقية من طابق واحد، وكانت مسوَّرة بجدران منخفضة، باستثناء بعض المدن التي شاعت فيها الشقق والعمارات السكنية، ورغم ذلك كانت الحدائق جزءا من تصميم مؤسسات الدولة.

ولطالما امتازت العاصمة العراقية وبعض المحافظات على مدار قرون عديدة بالتصاميم الجذابة والمباني المستوحاة من التراث البغدادي، إلا أن تلك المعالم اختفت خلال السنوات الماضية، ولاسيما بعد 2003، نتيجة الحروب والإهمال الذي طالها، حيث تحولت بعض تلك البيوت التي تحتوي على “الشناشيل” إلى مخازن لمختلف البضائع أو بيوت مهجورة ومتهالكة.

والشناشيل تحفة معمارية تمتد فوق الشارع أو الزقاق أو داخل الفناء الداخلي للمنزل (الحوش)، وتبنى بالخشب المنقوش بالزجاج الملون، حتى تتيح للنساء مشاهدة الحي بالخارج من داخل بيوتهن، وخصوصا عندما كان الحي منغلقا وتصميم البيوت موجها للداخل وليس للخارج.

الفراغات العامة في المدن العراقية مرت خلال السنوات الأخيرة بعمليات متواصلة من التحصين والفصل والإقصاء

ورغم أنه بين عامي 1980 و‏‏2003 اختارت ‏الدولة شخصنة العمارة ‏لصالح فكر وهوية الفرد الحاكم ‏والتي أفضت إلى طمس الإبداع ‏المعماري من جهة وتراجع أو ‏توقف الحركة المعمارية وعدم ‏ظهور أبنية جديدة ولافتة بسبب ‏صعوبة الظروف الاقتصادية و‏الاجتماعية في هذه الفترة من ‏جهة ثانية، فإن الدولة بعد العام ‏‏2003 قد تجاهلت أهمية الفكر ‏المعماري بالكامل واختارت ‏مؤسساتها ووزارتها التوجه إلى ‏مقاولين يختارون ما يشاؤون من تصاميم ‏ولكي يفرضوا ما يريدون على ‏المجتمع العراقي، ثم وصل الأمر ‏إلى أن المقاول يأتي بتصاميم ‏جاهزة مستوردة أو أنه يشتري ‏تصاميم جاهزة من شركات أخرى ‏وبالتالي كان الثمن من جديد ‏الإضرار بإبداعية العمارة ‏العراقية وهويتها.‏

ويقول المهندس المعماري محمد الأعسم حول تدني مستوى الذوق المعماري وخاصة تغليف أعمال معمارية مهمة بألواح الألمنيوم الملون إن المعماريين ليسوا أصحاب القرار في هذه الكارثة المعمارية (الكوبوند) فمن الظلم تحميلهم هذا الذنب مع أنهم مسؤولون عن قرارات كارثية أخرى.

ويضيف أن “أساتذة العمارة في جامعاتنا كذلك لا ذنب لهم في هذه، مع أننا نعلم أن مستوى تدريس العمارة هو دون المستوى المطلوب، مع وجود الكثير من الأساتذة الممتازين، ولكن هذا مرتبط بتدني مستوى التعليم في العراق على كافة المستويات وفي جميع المواد، وهذا يحتاج إلى وقفات طويلة”.

ويتابع الأعسم أن المنتج المعماري في أي بلد هو انعكاس للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقد شهد العراق في الزمن السابق منتجا معماريا يعكس حالة البلد السياسية آنذاك (أسميها أنا العمارة الصدامية) حيث نشاهد التقليد الشديد لعمارة ومواد بناء القصور الرئاسية وذلك في معظم ما بُني في فترة الثمانينات ولغاية 2003.

ويقول المهندس المعماري إنه “بعد 2003 حلت مرحلة الفوضى والتسيب وتعدد متخذي القرارات، بالإضافة إلى عدم احترام ضوابط البناء على بساطتها، وطبعا ترييف المدينة بشكل كامل. فانعكس كل ذلك على الطرز المعمارية سواء في الأبنية الجديدة أو في أعمال صيانة الأبنية القائمة”.

الحواسم تتمدد

العاصمة العراقية وبعض المحافظات على مدار قرون عديدة امتازت بالتصاميم الجذابة والمباني المستوحاة من التراث البغدادي، إلا أن تلك المعالم اختفت نتيجة الحروب والإهمال الذي طالها

لا تخلو مدينة عراقية من منطقة أو حي باسم “الحواسم”، ويحدث أن يكون في المدينة الواحدة أكثر من حي بهذا الاسم، كما هو الحال في مدن كربلاء وذي قار وبابل، حيث تنتشر هذه الأحياء التي تتخذ شكل المساكن العشوائية والبيوت المتداخلة والمتشعبة. وتزداد هذه العشوائيات سنويا، وتكبر متخذة شكل الأحياء الكاملة، في حين تغيب فيها الخدمات مثل الماء والكهرباء والطرق والصرف الصحي وغيرها.

و”الحواسم” اسم كان قد أطلقه الرئيس العراقي الراحل صدام حسين على معركة عام 2003 ضدّ التقدّم البري الأميركي البريطاني لغزو العراق، والتي مهدت لاحتلال البلاد ونهاية نظام صدام. ولكن العراقيين وبعد عمليات النهب والسلب التي طالت دوائر الدولة ومؤسساتها ومصارفها، أطلقوا على عمليات السرقة تلك تعبير “الحواسم”، وصارت هذه التسمية سارية كذلك على المقرات العسكرية والأمنية التي تسكنها العوائل الفقيرة.

وذكرت هيئة المستشارين في محافظة بغداد ديسمبر الماضي أن هناك أكثر من 2.5 مليون يسكنون في العشوائيات داخل حدود العاصمة.

ويقول باحثون إن هذه الحواسم لها تأثير سلبي على المنظومة المجتمعية في العراق وتضمن عدم استتباب الأمن. وأكدوا أن الوضع الذي يعيشه العراق لا يحتمل وجود مناطق سكن عشوائي، مما يشكل عبئا اجتماعيا على المناطق القريبة منها التي “شكت خلال السنوات الماضية من ازدياد الجريمة والسرقة مع تكاثر البناء العشوائي والتهجير في البلاد”.

وفي تقارير سابقة رأت وزارة التخطيط العراقية أن أزمة العشوائيات تحتاج إلى سبع سنوات للقضاء عليها، هذا في حال توفرت الأموال الكافية لها وسار العمل بشكل طبيعي وإيجابي.

ورجحت عضو لجنة الخدمات النيابية منار عبدالمطلب الشديدي إقرار قانون العشوائيات قبل نهاية الدورة البرلمانية الحالية بصيغة مرضية للشعب. وقالت الشديدي إن لجنتها ضمنت صيغة مرضية للشعب ولا تثير غضب الشارع العراقي ضمن قانون العشوائيات وبالاستعانة بخبراء ومستشارين قانونيين للخروج بالقانون بالوجه الصحيح. 

وأوضحت أن حسم تمليك العشوائيات وفق الضوابط القانونية خدمة كبيرة للحكومة والشعب، إلى جانب حسم ملف المتجاوزين على الأراضي الزراعية البعيدة عن المساحات الخضراء والبعيدة عن أي منشأ أو دائرة حكومية.

 ولا ينفك المكان يستجيب للظرف الاجتماعي الذي يعيشه البلد منذ حرب 2003 وحرب الميليشيات المسلحة مع القوات العراقية والحرب الطائفية بين 2005 و2007، واستهداف المدنيين ومؤسسات الدولة، وسقوط عدة محافظات تحت سيطرة تنظيم داعش، إلى الإرهاب الذي تمارسه العشائر المسلحة. كل هذا ترك أثرا في المكان والعمارة العراقية.

ويتمثل أثر الخوف في الاحترازات الأمنية التي تحيط بمنازل المدنيين والمسؤولين على حد السواء، وفي مؤسسات الدولة بشكل واضح، التي تحميها خرسانات مسلحة مرتفعة، تعلوها أسلاك شائكة وكاميرات مراقبة، تجعلها تبدو كأنها سجون صغيرة أو ثكنات عسكرية.

ولا يكاد يمر أسبوع إلّا وتحدث جرائم سطو مسلح على منازل في العاصمة وضواحيها، تنتهي بقتل سكانها أو إصابتهم وسلب أموالهم، وتبدأ أجهزة الأمن بتعقب خيوط الجريمة التي غالبا ما تسجل ضد مجهول بحسب المصادر الأمنية.

وفي هذه الأثناء ينشغل أغلب العراقيين بتأمين منازلهم، خاصة الأثرياء خشية عمليات السطو المسلح، وينصبون كاميرات المراقبة وأجهزة الإنذار واستشعار الحركة حول منازلهم التي باتت تشبه الثكنات العسكرية.

وكما يرى مواطنون، ما يزيد الأمر تعقيدا هو ترهل أجهزة الأمن وولاؤها المتعدد لرجال دين أو أحزاب سياسية أو جهات خارجية، ما يجعل المشهد الأمني مربكا للناس حتى داخل منازلهم.

وفي خضم صراعات القوى المختلفة، تأتي الحرب كأهم دافع لحركة المدن وقواها المتغايرة، جالبة معها شؤون التحصين والمراقبة والأمن والسيطرة.

المدن ساحة حروب

الحرب وجه المدينة
الحرب وجه المدينة

لم تقتصر المدن العراقية على كونها ساحة للمعارك والحروب فقط، وإنما عملت كوكالة ووسيلة للحرب ونشاطاتها، فبتمدّن العالم وفراغاته تمدنت الحرب أيضا. وبذلك تكون البيئة المعمورة مشهدا مدينيا للهيمنة ومكانا لممارسة القوة/ السلطة ولتجلّي الشعور بالخوف.

وينتشر في العراق التخطيط العسكري الجديد الذي يدور حول تكثيف المظاهر العسكرية للحياة فيها، بما يغير الثقافة المدينية بسياساتها ومشاهد مدنها ودوائر بناها التحتية عبر تطبيع العسكرة، ما يعني بدوره تطبيع الحرب نفسها.

ويعتبر الخوف أهم مقومات التخطيط العسكري. فقد مرت الفراغات العامة في المدن العراقية خلال السنوات الأخيرة بعمليات متواصلة من التحصين والفصل والإقصاء والسيطرة والخصخصة، كان بعضها متولدا من الحياة اليومية بما في ذلك مشاعر وتصورات السكان.

المدن تمثل مرايا لأناسها برغباتهم وبجوانبهم المضيئة والمظلمة فهي تركيبات من هويّات متمايزة وكينونات حيّة لا تتوقّف عن التغيّر

وكان الخوف عملة صالحة لتبرير أي مسألة، فالعسكرة عملت مع سياسات الخوف واستخدمتها في التخطيط المديني لتعزيز أشكال الإقصاء وإعادة تصنيع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، رغم أن الإقصاء كان ينتج أحيانا عن غير قصد.

وتتمظهر أول مشاهد الخوف في المناطق المطوّقة (المغلقة) التي اشتُقت من مفهوم المجتمع التأديبي وطريقة توزيعه للناس في الفراغ، والانتقال بين ممارسة الهيمنة أو الخضوع لها. وتعرّف المناطق المطوّقة بأنها مكان غير متجانس للآخرين ومنغلق على نفسه. وترمز المناطق المطوّقة إلى تجميع الأماكن المبعِدة اجتماعيا والمغلَقة مكانيا، وهي تظهر من خلال عمليتين أولهما فراغات الإقصاء (الاستثناء) الإجباري من المساحات والحقوق الجماعية: وهي فراغات لها موقعان، الأول هو المخيمات المنصوبة في مناطق يصعب الوصول إليها، والثاني هو المناطق المهمشة التي تحدّها الأسوار والجدران.

وفي أحد أحياء العراق استدعى السطو المسلح على بعض المنازل اجتماع الرجال ليدلي كل منهم بدلوه في الأمر حيث كان الحديث يدور على محاور عدة كان أهمها ما هو دور القوات الأمنية في هذا الموضوع. وطوقت المنطقة بعد نقاشات بأسلاك شائكة ومتاريس وكاميرات تصوير وتبديل الأقفال بأقفال إلكترونية وأجراس إنذار وكلف بعض الشباب بـ”عمل مخابراتي” في تقصي حقائق السيارات التي تمر في بعض الأزقة والبحث عمن يكشف لهم أمر السيارات التي تصول وتجول بغير أرقام أغلبها سيارات تكسي تمرق كالبرق في الساعة الثانية بعد منتصف الليل ذهابا وإيابا.

وبدا الرجال وكأنهم دخلوا الحرب حيث أنهم تناقشوا أيضا في كيفية القيام بمناورات بالذخيرة الحية!

الشعور بالخوف.. أهم مقومات التخطيط العسكري لتدمير المدن
الشعور بالخوف.. أهم مقومات التخطيط العسكري لتدمير المدن

 

20