المملكة السعيدة صدّرت ما يكفي من البؤس للعالم

فإذا نجحت بريطانيا في صناعة رفاهة شعبها وسعادته فإنها نجحت كذلك في ترسيخ علامات البؤس خارج المملكة بما يكفي لجعل أغلب الدول المصنفة بذيل قائمة مؤشر السعادة من ضحايا الإمبراطورية الاستعمارية.
الأحد 2019/04/28
السعادة المفترضة للشعوب تصبح فاقدة لمعناها إذا ما ارتبطت نتيجتها بتعاسة شعوب أخرى

تعتمد شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة في تقريرها السنوي لمؤشر السعادة العالمي عوامل رئيسية في تصنيفها للدول مثل متوسط العمر والدعم الاجتماعي ونسب الفساد.

ترتبط تلك العوامل في النهاية بمدى قدرة السلطة والحكومة على الالتزام بأهداف التنمية والحوكمة التي تحددها في برامجها. وهذا الترابط يذكّرنا دائما بنشأة المجتمعات التعاقدية التي وضع أسسها فلاسفة الأنوار منذ القرن السابع عشر وأصبحت منذ ذلك الحين تنظّم علاقة السلطة بالشعوب على قاعدة الالتزام والقانون وليس المشاعر.

في المجتمعات الرأسمالية الغربية يدفع المواطنون البريطانيون والأوروبيون بمن في ذلك المهاجرون، الضرائب ليكونوا سعداء بمعايير التنمية المستدامة التي لا تخرج عن أولوية الدفاع عن مصالحهم وعن الخدمات. لهذا يخرج البريطانيون إلى الشوارع ليعدّلوا السياسات الحكومية وليفرضوا البريكست دفاعا عن مصالحهم وسعادتهم أيضا.

لقد اجتهد رواد العلوم الإنسانية على مدى قرون لفهم ظاهرة الإنسان وترويضها ووضعها على المحك العلمي والرياضي لكنهم اكتفوا في النهاية بالتأويل بدل التفسير. وفي عصر المجتمعات التعاقدية التي نعيش في كنفها اليوم فإن مفهوم السعادة لا يخرج عن كونه حالة ذاتية ونسبية وغير قابلة للترويض القطيعي.

وفي مطلق الأحوال فإنه ليس من باب الوجاهة التعاطي مع تصنيفات الأمم المتحدة كأخبار ترفيه مضللة تسوّقها وسائل الإعلام لجمهور يقف على طرفي نقيض من مسألة تعريف مفهوم السعادة بحد ذاتها.

وبالعودة إلى تصنيف شبكة حلول التنمية المستدامة لهذا العام والذي وضع الدول الاسكندينافية في مقدمة الدول السعيدة، فإنه سيكون من الغباء الأخذ بالمفهوم الشعبي والسطحي المتداول للسعادة وإلا فإن معايير الاندماج الثقافي والاجتماعي والمناخ وحركات التطرف اليمينية في هذه الدول قد تصبح لوحدها عوامل قاتلة للسعادة، لاسيما في المجتمعات متعددة الأعراق أو التي تستقطب أعدادا كبيرة من اللاجئين والمهاجرين الباحثين عن الأمن والسعادة، ومن بينها بريطانيا أساسا.

إذا أخذنا بالمعيار الأخلاقي فإن السعادة المفترضة للشعوب تصبح فاقدة لمعناها إذا ما ارتبطت نتيجتها بتعاسة شعوب أخرى تم قهرها أو سحقها أو استنزاف مقدّراتها وتدمير حضارتها. وهذه المعادلة تدفع بشكل دائم إلى استحضار جزء كبير من التاريخ البريطاني القاتم والقائم على هذه الثنائية.

بشيء من الجدية، البريطانيون لم يخرجوا مثلا للاحتجاج في الشوارع ضد كذبة أسلحة الدمار الشامل التي روّج لها رئيس الوزراء السابق توني بلير وتسببت في ما بعد بتدمير ممنهج لبلاد الرافدين سيستمر المؤرخون في الحديث عنه في القرون المقابلة بقدر حديثهم عن اجتياح هولاكو في القرون الوسطى.

لم يدفع البريطانيون مملكتهم إلى تصحيح سياستها الخارجية وأخطائها التاريخية في الشرق الأوسط منذ اتفاق سايكس بيكو والتقسيمات الجغرافية والإثنية التي تسببت بها في آسيا وشبه الجزيرة الهندية. هي أصلا لم تعلن حتى اليوم اعتذارها عن مجازر كثيرة ارتكبها الجيش الاستعماري وسلاح الجو الملكي، وهذا بحد ذاته أبقى على جراح غائرة لدى شعوب كثيرة في الأرض اكتوت بالاستعمار البريطاني.

في شهر أبريل من هذا العام مثلا أحيت الهند الذكرى المئة لمجزرة أمريتسار التي سقط خلالها الآلاف من العزل ومن بينهم نساء وأطفال برصاص الجنود البريطانيين بدم بارد خلال تجمع حاشد، وهي المجزرة التي غيّرت في تقدير المؤرخين مسار الكفاح الهندي من أجل التحرر.

في غياب “الاعتذار الصريح” فإن أكثر ما يمكن أن تقدمه بريطانيا الرسمية اليوم إلى الهند والشرق الأوسط وأفريقيا لا يتجاوز مشاعر الأسف والندم، لكن هذا لا يسمح في كل الأحوال بإعادة كتابة التاريخ كما عبّرت عن ذلك الملكة. كما لا يمكن من وجهة نظر أخلاقية أن يكون مصدر سعادة وفخر للبريطانيين كما لا يتوجب أن يكون مصدر إلهام وتسويق للمهاجرين على مرأى ومسمع من شعوبهم الأصلية.

فإذا نجحت بريطانيا في صناعة رفاهة شعبها وسعادته فإنها نجحت كذلك في ترسيخ علامات البؤس خارج المملكة بما يكفي لجعل أغلب الدول المصنفة بذيل قائمة مؤشر السعادة من ضحايا الإمبراطورية الاستعمارية التي تحكّمت حتى مطلع القرن العشرين برقاب ربع سكان الأرض وسيطرت على ربع مساحتها.

6