الملك محمد السادس يسْتمْطِر الإرادة التاريخية لتخصيب الجغرافيا

مساء الاثنين 29 يوليو 2024 كان المغاربة على موْعد مع لحظة أخرى، من لحظات توهُّج السياسة، التي دأب الملك محمد السادس على مُمارستها مع شعبه، في خطاباته، حتى ولو أنّ الخطاب يتعلق بذكرى مرور رُبْع قرن على تسلُّمه عَرْش المملكة المغربية.
القائد المغربي التاريخي بقيَ وفيّا لنهج اخْطَتّه في التواصل مع شعبه.. حديثٌ عميقٌ في دقائق قليلة، يُحرِّر السياسة من الْتباساتها ومن إبْهاماتها ليجعلها تمشي على الأرض بين الناس تُشحن بأنفاسهم وملْموسية قضاياهم وآمالهم…
في خطاب العرش، كان يحق للملك أن يتمدَّد مزهُوًّا على رصيد مُنجزاته في ربع قرن.. لذلك الشموخ في العطاء خصص جُملا محدودة، بنبرة تواضُع محسوسة. وأجمَل مؤدى منجزاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في أنها غذَّت الهوية المغربية ومتَّنت التماسك الاجتماعي ورفَعت من مكانة المغرب دوْليا. ودعا إلى المزيد من الثقة في الأمل وفي المستقبل.. ترك للمغاربة حق الغوْص قي التفاصيل، وهو ما فعلته النُّخبة المغربية، السياسية، الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. خلال شهر الدراسات، الأبحاث، التقارير، المقالات والشهادات مُنْكبَّة على حوْصلة مُنْجز رُبع قرن من حكم محمد السادس. كلها تقول بأن مغربا آخر تشكل ويواصل التشكُّل بكل مقومات نهضة حضارية. الملك منشغل بما ينبغي إنجازه وما يستدعي التصدّي له تأسيسًا على ما تحقق. هو قائد لمشروع تاريخي نهضوي وإصلاحي، غيرُ مهتم بتقديم كشف حساب مرحلة. مشروعه متواصل المراحل، وكلما تقدّم فيه ينشغل بآفاقه لتليينها وفك كوابحها.. التاريخ يسجل له وهو يحقِنه بالمستقبل.
إنه الملك محمد السادس الذي دخل إلى التاريخ من موْقع ملك المغرب ومن مدخل الممارسة الواقعية للسياسية مع شعبه ومع أطراف العلاقات الدولية للمغرب
خطاب العرش، الاثنين، فجر فيه عيون الأمل ليسقي بإرادة التحدي جدب الطبيعة.. الماء هو الحياة، وهو يضع أمام المغاربة مُعضلة الجفاف، يملأ السياسة بالحياة. يُدخل السياسة في ذلك التفصيل الذي الجوهر في حياة التفاصيل.. السياسة تدبير لحياة الناس، وهم لا يشربونها، هم يفهمون بها واقعهم ويتدبرون بها قيام عُمرانهم. الماء مسألة وجود، وأمامه تهون أو تتراجع أو تتوارى كل انشغالات الوجود الأخرى.
ملك المغرب بخطابه في الموضوع يستنفرُ الإرادة الوطنية بكل مقوماتها وقوّتها.. يشحنها بنفس الفعل التاريخي. ولأنه يلتزم الواقعية في تدبيره السياسي، ولم يتأخر قط على مصارحة شعبه، أحال جزءا من توصيف خطورة تداعيات الجفاف على التقصير والتأخير في إنجاز مشاريع كانت مخططة ضمن مجهود التصدي للخصاص المائي.
الفعل البشري مؤثر سلبا، وهو اليوم مطلوب بأن يؤثر إيجابا. وقد خط الملك محمد السادس لهذا الفعل الوطني وهذا التحدي إجراءات عملية على المَديات القريبة والمتوسطة والبعيدة.. إنها الواقعية التي تقنع وتعبئ وهو النقد الذي يقوّم وينتج.
خطاب العرش فجر فيه عيون الأمل ليسقي بإرادة التحدي جدب الطبيعة.. الماء هو الحياة، وهو يضع أمام المغاربة مُعضلة الجفاف، يملأ السياسة بالحياة
إنه تحريض ملكي قوي وواضح على أن تذهب السياسة إلى الحياة، وتكفَّ عن التحليق في استشكالات مفاهيمية أكثرها متوهم. وأن تسقي نفسها بماء الواقعية التي لا تترفع عن ولا تستثقل قسوة وحِدة الواقع.
من تلك الواقعية ومن ذلك الوضوح ومن صرامته المبدئية، سيفتح الملك محمد السادس في خطابه مدخلا على تطورات القضية الفلسطينية.. فهو لا تشغله عنها انكبابه على القضايا الداخلية. وهو الذي ردّد دوما بأن القضية الفلسطينية هي قضية وطنية مغربية. وفيها، أيضا، فضلا على تعاطفه الواضح مع معاناة الشعب الفلسطيني، كشف عن مساعيه للتدخل من أجل وقف دائم للعدوان الإسرائيلي على غزة. وكان لافتا أن ربط الحاجة إلى حل سياسي دائم بقيام دولة فلسطينية وضمنها قطاع غزة. وهي رسالة، غير مُشفرة إلى من يحاول أن يؤبد الفصل بين الأراضي الفلسطينية وبين الفصائل الفلسطينية… القضية الفلسطينية، جدب آخر في الأوضاع العربية وجفاف سياسي وإنساني يحتاج إلى استمطار إرادة دولية لتخصيب حلِّها بتمكين الشعب الفلسطيني من حقوقه الوطنية… وملك المغرب بقدر وطنيته المغربية يُعلن وطنيته الفلسطينية، وهنا أيضا يستدعي إرادة الفعل التاريخي لتقويم اختلالات الجغرافيا..
إنه الملك محمد السادس الذي دخل إلى التاريخ من موْقع ملك المغرب ومن مدخل الممارسة الواقعية للسياسية مع شعبه ومع أطراف العلاقات الدولية للمغرب.. يهمه من إنجازاته استمرارها وتطورها، وليس تمجيدها ولا التباهي بها، ويهمّه من إدارة الحكم إشراكه شعبه في تملك الحقائق كما هي، بلا تهويل وبلا تقليل، ويهمّه أن تنتصر إرادة الفعل التاريخي ضد كوابح، مُثبِّطات ومطبات الحياة إن سياسية، اجتماعية أو طبيعية.
المؤرخ والوزير أحمد التوفيق، أوْضح في حوار نُشر له في عدد خاص لجريدة الاتحاد الاشتراكي بمناسبة عيد العرش بأن “الناس تريد إماما تحس ببراءته وبصدقه”.. والملك محمد السادس هو أمير المؤمنين، القائد الذي معدِنه البراءة.. هو من جعل الصدق مع نفسه، مع شعبه ومع التاريخ منهجه ومبدأه في الحكم وفي الحياة.