الملكية الدستورية في ليبيا: من أجل عباءة تجمع ما تشتّت

المنادون بعودة الملكية الدستورية لديهم من المبررات ما يفرض الاستماع إليهم، ولو عبر تنظيم استفتاء حول شكل النظام السياسي الذي يختاره أغلب الليبيين.
الثلاثاء 2019/01/29
حنين مبرر إلى الحقبة الملكية

عاد الحديث بقوة في الساحة الليبية عن النظام الملكي كغطاء سياسي يمكن أن يحمي البلاد من عاصفة التحولات العميقة التي تعرفها والتي قد تؤدي بها إلى ما قبل الملكية. وأصحاب هذا التوجه، يستنجدون بالتاريخ للتأكيد على أن ليبيا في ظل الملك إدريس السنوسي كانت دولة مدنية بدستور تقدمي ضامن للحريات العامة والخاصة، وللمساواة بين الليبيين، ومحافظ على وحدة الإقليم، كما أنها كانت تشهد انتخابات نزيهة وتداولا سلميا على السلطة.

رغم أن الحقبة الملكية لم تكن تخلو من الفساد أو الارتهان إلى الأجنبي، إلا أنها مثّلت غطاء اجتماعيا وثقافيا للشعب الليبي الواقع تحت سلطة القبيلة، والذي لم يستطع تجاوز تناقضاته المحلية والمناطقية والقبلية  خصوصا مع بروز بوادر الثروة، وهو ما كشفت عنه أحداث 2011.

أنصار الملكية يستندون إلى طبيعة المجتمع الذي تسيطر عليه نزعة التمرد، ويحتاج إلى رمزية سياسية تقيه من الانزلاقات إلى الفوضى والعنف، وإلى سلطة معنوية تمثل له الزعامة الأبوية القادرة على استيعاب سلطة القبيلة والأيديولوجيا والميليشيا، وتعوض سلطة الأحزاب العاجزة عن التماهي مع أشكال النظام السياسي في الغرب، إضافة إلى قدرتها على تحصين الجغرافيا والمجتمع والثروة في دولة حديثة التشكّل، وفق المعايير السياسية.

وليس غريبا أن ترتفع الأصوات الداعية إلى عودة الملكية من شرق البلاد، فمن هناك كانت الإمارة، ثم المملكة، ومن هناك جاء إدريس السنوسي ليس كأمير أو كملك فقط وإنما كزعيم روحي كونه سليل الأسرة السنوسية ذات الطريقة الصوفية التي ساهمت في بلورة مشروع التحرّر الوطني وخاصة في إقليم برقة وتوحيد القبائل تحت راية المقاومة ثم بناء الدولة، وهناك كانت العاصمة التي أقرها دستور 1963، وأن يكون لتلك الدعوة أنصار في غرب البلاد وجنوبها، فمعنى ذلك أن الليبيين يصرون على دولتهم الواحدة، ويخشون من أن تؤدي النخبة السياسية الحالية إلى تقسيمها والعودة بها إلى ما قبل 1951.

لست بالضرورة من المدافعين عن عودة النظام الملكي، فأنا لست ليبيّا، والأمر يخص أهل البلاد أولا، ولكنني أعتقد أن المنادين بعودة الملكية الدستورية، لديهم من وجاهة الدوافع والمبررات ما يفرض الاستماع إليهم، ولو عبر تنظيم استفتاء حول شكل النظام السياسي الذي يختاره أغلب الليبيين لبلادهم، حتى لا يتم القفز على واقع بات يفرض نفسه ويتمثل في حنين حقيقي إلى الماضي، خصوصا في ظل الفشل الذي تعاني منه السلطات الحالية ومن ورائها الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والمجالس المنتخبة والمعينة والميليشيات المسلحة والحكومات المنصبة وسلطات الأمر الواقع.

إن الدفاع عن مبدأ عودة الملكية له ما يبرّره، وخاصة في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ ليبيا، فخلال 42 عاما سعى القذافي إلى تكريس “ملكية مقنعة” ولكن انطلاقا من الخيمة وليس من القصر الذي كان يكنّ له عداء كبيرا، حيث كان سيستمر في الحكم إلى أن يورّثه لأحد أبنائه. وبعد 2011، برزت نخبة سياسية لم تثبت إلى اليوم القدرة على حماية سيادة البلاد ووحدتها الترابية وتحصين مقدراتها، ولا على تجاوز الحسابات الفردية والحزبية، بل عرفت البلاد تمزقا طال المجتمع والجغرافيا، وتجاذبات أثبتت أن الدكتاتورية الحقيقية لا تزال راسخة لدى من كانوا يرفعون شعارات الحرية والديمقراطية ضد النظام السابق، كما بيّنت الحكومات المتتالية فشلا ذريعا في إقناع الشعب بمشروع سياسي واقتصادي واجتماعي حقيقي، وحتى مسودة الدستور لم تفلح في توحيد الليبيين.

هناك أمر آخر، وهو أن الأنظمة الوراثية في الوطن العربي هي التي استطاعت إلى حد الآن ضمان الاستقرار والرفاه لشعوبها، وخصوصا عندما نتحدث عن الدول التي تتشابه ثقافيا واجتماعيا مع ليبيا، ولديها نفس الثروات، وهذا ما جعل جانبا من الليبيين يتوق إلى أن يعيش في ظل نظام وراثي عادل ومنصف، ومحترم للتوازنات القبلية وللتنوع الثقافي، كما كان معمولا به في العهد الملكي.

إن حكم ليبيا ليس سهلا كما يعتقد البعض، فنحن أمام دولة ممتدة الإرجاء، متسعة الأركان، قليلة السكان، بالغة الثراء، متنوعة الأعراق والثقافات، محل أطماع القاصي والداني، وهي لا تزال في مرحلة التشكّل والبناء، وتحتاج إلى من يستطيع لملمة ما انفرط من عقد وحدتها بعد أحداث 2011، وإلى من تكون له عباءة قادرة على تجميع ما تشتّت، وتوحيد ما تفرّق، واستعادة ما تبدّد وتحقيق المصالحة بين الفرقاء، وتجاوز مرحلة الألم والنزاعات التي عصفت بالبلاد وأهلها.

12