المغرب يعيد تشكيل التوازن الاجتماعي عبر إصلاحات شاملة

الحوار الاجتماعي رافعة للعدالة الاجتماعية والاستقرار الاقتصادي.
الجمعة 2025/05/02
القدرة الشرائية للمواطن أولوية إستراتيجية

تأتي جولة أبريل 2025 من الحوار الاجتماعي في سياق وطني يتسم بتزايد الرهانات الاجتماعية وتنامي تطلعات الشغيلة، لتجسد تحولا نوعيا في تفعيل التوجيهات الملكية الداعية إلى جعل الحوار الاجتماعي دعامة أساسية للنموذج التنموي الجديد. فبعيدا عن منطق الوعود، اتسمت هذه الجولة بنتائج ملموسة تؤكد نضج العلاقة بين الفرقاء الاجتماعيين، وتعكس إرادة سياسية في إرساء تعاقد اجتماعي متوازن قائم على العدالة. 

الرباط - في سياق المساعي الوطنية الرامية إلى ترسيخ دعائم الحوار الاجتماعي كآلية إستراتيجية لتحقيق التوازن المجتمعي وتعزيز العدالة الاجتماعية، شهد المغرب خلال أبريل 2025 جولة مركزية جديدة من الحوار الاجتماعي، اعتُبرت محطة مفصلية في مسار الإصلاحات الاجتماعية، وتجسيدا فعليا للتوجيهات الملكية التي جعلت من الحوار الاجتماعي ركيزة أساسية ضمن النموذج التنموي الجديد.

وقد ترأس هذه الجولة رئيس الحكومة عزيز أخنوش، بحضور النقابات الأكثر تمثيلية، والاتحاد العام لمقاولات المغرب، والكونفدرالية المغربية للفلاحة والتنمية القروية، في لقاء تقييمي لتقدم تنفيذ الالتزامات المتبادلة، واستشراف آفاق المرحلة المقبلة، مع التركيز على تنزيل ما تبقى من بنود الاتفاقين الاجتماعيين الموقّعين في الثلاثين من أبريل 2022 والتاسع والعشرين من أبريل 2023.

وتميزت هذه الجولة بحصيلة وُصفت بالمتميزة، لما حققته من مكتسبات اجتماعية ملموسة، خاصة في ما يتعلق بتحسين القدرة الشرائية للشغيلة وتعزيز الحماية الاجتماعية. واستفاد موظفو القطاع العام، خلال يوليو 2024، من الدفعة الأولى من الزيادة العامة في الأجور بقيمة 1000 درهم شهريا صافية موزعة على مرحلتين، وشملت هذه الزيادة جميع العاملين في الإدارات العمومية والجماعات الترابية والمؤسسات العامة، مما شكل دفعة قوية في اتجاه تحسين أوضاع الموارد البشرية في القطاعات الحيوية.

وخصصت الحكومة اعتمادات مالية ضخمة لهذا الورش، تجاوزت 17 مليار درهم لقطاع التربية الوطنية، ومليارين لقطاع التعليم العالي، و3.5 مليار درهم لقطاع الصحة، مع توقعات بارتفاع متوسط الأجور الصافية في القطاع العام إلى 10.100 درهم شهريا بحلول عام 2026، مقارنة بـ8.237 درهم في عام 2021. كما ارتفع الحد الأدنى للأجور في هذا القطاع من 3000 إلى 4500 درهم، بنسبة زيادة بلغت 50 في المئة، وبكلفة إجمالية قدرت بـ45.7 مليار درهم.

زيادات مهمة في الأجور وتوسيع التغطية الاجتماعية، شكلا أبرز مكسب اجتماعي في جولة أبريل من الحوار الاجتماعي
◙ زيادات مهمة في الأجور وتوسيع التغطية الاجتماعية، شكلا أبرز مكسب اجتماعي في جولة أبريل من الحوار الاجتماعي 

وأما في القطاع الخاص، فقد سُجّلت بدورها زيادات مهمة في الحد الأدنى للأجر، حيث ارتفع بنسبة 15 في المئة في الأنشطة غير الفلاحية، ليصل إلى 3046.77 درهما شهريا، وبنسبة 20 في المئة في القطاع الفلاحي ليصل إلى 2255.27 درهما. كما تم اتخاذ قرار بالغ الأهمية على مستوى توسيع نطاق الحماية الاجتماعية، من خلال تخفيض شرط الاستفادة من معاش الشيخوخة من 3240 إلى 1320 يوم اشتراك، مع اعتماد أثر رجعي على المتقاعدين منذ يناير 2023، ما سمح بدمج فئات جديدة ضمن دائرة الحماية.

وتماشيا مع هذا التوجه الإصلاحي، شهد النظام الضريبي هو الآخر تحولا إيجابيا، إذ أدت مراجعة الضريبة على الدخل، التي دخلت حيز التنفيذ في يناير 2025، إلى توفير ستة مليارات درهم، انعكست على أجور الشغيلة بزيادة تفوق 400 درهم شهريا. وفي سياق التزامات الحكومة، تم التأكيد على صرف دفعة ثانية من الزيادة في الأجور بقيمة 500 درهم خلال يوليو 2025، مع رفع الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص بنسبة 5 في المئة خلال يناير وأبريل 2026، والعمل على توحيده تدريجيا بحلول سنة 2028.

وشملت الجولة الاجتماعية أيضا مناقشة ملفات مهمة من قبيل النظام الأساسي لموظفي الجماعات الترابية، الذي يهم أكثر من 84 ألف موظف، حيث تم تحديد 13 مايو 2025 لعقد اجتماع خاص بهذا الملف. كما تعهدت الحكومة بمراجعة الأنظمة الأساسية لعدد من الهيئات المهنية، منها المهندسون، المتصرفون، التقنيون ومفتشو الشغل، وبتشكيل لجان مختصة لإصلاح تشريعات العمل وتحديث مدونة الشغل بما يستجيب لتطلعات الشركاء الاجتماعيين.

وفي الإطار نفسه، جددت الحكومة التزامها بمواصلة الحوار القطاعي المنتظم كآلية لتقوية العلاقات المهنية وتعزيز مناخ الثقة، مؤكدة إصدار منشور لتعميم هذه الآلية على كافة القطاعات الوزارية، مع تتبع نتائجها بشكل مباشر من طرف رئيس الحكومة. كما تم التطرق إلى ملف إصلاح أنظمة التقاعد، حيث أُعلن عن تشكيل لجنة وطنية تعمل على بلورة تصور توافقي للإصلاح، مستندة في ذلك إلى المبادئ التي تم التفاهم حولها في إطار اتفاق أبريل 2024.

ويأتي هذا الزخم الإصلاحي ليكرس المكانة المحورية للحوار الاجتماعي في البناء المؤسساتي للمغرب الحديث، ويعكس نضجا متزايدا في التعاطي مع قضايا الشغل والحماية الاجتماعية والعدالة الضريبية والتوازن الاقتصادي. ولا يمكن فصل ما تحقق في هذه الجولة عن إرادة الدولة، بقيادة العاهل المغربي الملك محمد السادس، في بناء تعاقد اجتماعي جديد يقوم على الثقة المتبادلة، والواقعية الإصلاحية، والحرص على توزيع عادل للثروة الوطنية.

وإذا كانت هذه الجولة قد نجحت في تحقيق مكتسبات مهمة، فإن التحدي الحقيقي يظل في ضمان استدامة هذا الحوار ومأسسته، وتوفير آليات التقييم والتتبع الكفيلة بتحويل الالتزامات إلى إنجازات ملموسة. ومع كل خطوة إصلاحية جديدة، يتعزز موقع المغرب كدولة تسير بثبات نحو تحقيق التنمية الاجتماعية المستدامة، من خلال شراكة حقيقية بين مختلف القوى الفاعلة في المجتمع.

وتأتي جولة أبريل 2025 في سياق تراكم تجارب الحوار الاجتماعي بالمغرب، التي تعود إلى التسعينات، لكنها شهدت تحولا نوعيا منذ إقرار دستور 2011، الذي أرسى قواعد الديمقراطية التشاركية وربط التنمية بالعدالة الاجتماعية. كما تتزامن هذه الجولة مع ظرفية اقتصادية دقيقة تطبعها آثار ما بعد الجائحة، وارتفاع كلفة المعيشة، والتحديات المرتبطة بالتوازنات المالية للدولة، ما جعل من تحسين شروط العمل وتوسيع الحماية الاجتماعية ضرورة إستراتيجية.

وعلاوة على ذلك، يندرج هذا المسار في إطار التزامات المغرب الدولية المتعلقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لاسيما تلك المنصوص عليها في الاتفاقيات الأساسية لمنظمة العمل الدولية، مما يضفي على الحوار الاجتماعي بعدا مؤسساتيا دوليا يتجاوز الإطار الوطني.

وتندرج جولة أبريل 2025 للحوار الاجتماعي ضمن دينامية إصلاحية أشمل يشهدها المغرب منذ إطلاق ورش النموذج التنموي الجديد، الذي اعتبر رأس المال البشري ركيزة أساسية للتنمية، ودعا إلى تقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية وضمان العدالة الأجرية. كما تأتي هذه الجولة في لحظة سياسية دقيقة، حيث تواجه الحكومة ضغطا متزايدا من الشارع والنقابات بسبب ارتفاع الأسعار وتآكل القدرة الشرائية، ما جعل من الحوار الاجتماعي وسيلة لتقوية الجبهة الداخلية وتعزيز الاستقرار الاجتماعي.

وإضافة إلى ذلك، فإن السياق الجيو – اقتصادي الإقليمي والدولي، بما فيه اضطرابات سلاسل التوريد، وتقلبات أسعار الطاقة والمواد الأساسية، يفرض على المغرب تأمين مناخ اجتماعي هادئ لاحتضان الاستثمارات وتفادي التوترات. ومن هنا، يُفهم إصرار الحكومة على استباق المطالب الاجتماعية من خلال إجراءات استباقية تتعلق بالأجور والضرائب والمعاشات والإصلاحات التشريعية.

ولا يمكن عزل هذه الخلفية أيضا عن رغبة الدولة في مأسسة الحوار الاجتماعي، بما يجعله أداة منتظمة وشفافة لصياغة السياسات الاجتماعية، عوض أن يكون مجرد رد فعل ظرفي. ويُلاحظ في هذا السياق تطور ملحوظ في أداء الشركاء الاجتماعيين، الذين باتوا يتفاوضون وفق مقاربة تشاركية تتجاوز المطلبية إلى تقديم بدائل واقعية ومقترحات تشريعية.

7