المعارضة التونسية: فسيفساء قضت المصالح على تجانسها

الجمعة 2016/09/02

المبادرة السياسية التي أطلقها الرئيس الباجي قائد السبسي مطلع يونيو الماضي حول تغيير الحكومة أصابت المشهد السياسي بالبعض من الالتباس. فلقد كانت الساحة مقسّمة بين ائتلاف أغلبي حاكم مسنود بالبعض من الأحزاب الدستورية والتجمعية الصغيرة من شتات نظام زين العابدين بن علي مثل حزب المبادرة، من جهة، وبين معارضة سمتها التنوع في غير وحدة متكوّنة من يسار ماركسي ويسار قومي ويمين محافظ يتمثل في حزب الرئيس المؤقت السابق منصف المرزوقي ومن دار في فلكه.

ومن بين المعارضة من هو من الأحزاب ممثل في مجلس نواب الشعب مثل الجبهة الشعبية وحركة الشعب والمؤتمر من أجل الجمهورية والتيار الديمقراطي والحزب الجمهوري والتحالف الديمقراطي وحزب الفلاحين؛ ومنها من هو غير ممثل فيها مثل حزب المسار الديمقراطي الاجتماعي وحزب التكتل من أجل العمل والحريات. فلقد أفرزت انتخـابات 2014 الجبهة الشعبية قـوة برلمانية معارضة محترمة بـ 15 نائبا مقابل تهاوي أحـزاب أخرى كانت وازنة بعد انتخابات 2011 مثل حزب التكتل وحزب المؤتمر اللذين شكلا ضلعي الترويكا مع حركة النهضة.

وخرج حزب التكتل من البرلمان نهائيا بعد أن كان له 20 نائبا في انتخابات 2011 ورئيسه تولى رئاسة المجلس التأسيسي الذي صاغ دستور تونس الجديد، وكذلك حزب المسار بعد أن بلغ عدد نوابه في التأسيسي 11 نائبا فيما خسر الجمهوري 6 مقاعد في البرلمان ولم ينجح في انتخابات 2014 إلا في الحصول على مقعد واحد عن محافظة سليانة في الشمال الغربي التونسي المفقر.

نتائج انتخابات 2014 أخرجت حزب التكتل، الذي كان رئيسه يرأس المجلس التأسيسي ومرشحه للرئاسية، تماما من المشهد. أما حزب المسار فإنه ظل محافظا على درجة تحرك وحضور في المشهد بحكم قربه من الجبهة الشعبية. وانقسمت هذه الأحزاب إلى كنتونات صغيرة تحاول التتنسيق في ما بينها فالمسار قريب من الجمهوري بينما يبحث حزب المؤتمر والتكتل والتيار الديمقراطي وحركة الشعب عن تقاطعات.

لم تنجح هذه الأحزاب في الوحّدة أو حتى في وضـع هياكل تنسيق متينة بينها ولا في وضع خطط تحرك ناجعة ومؤثرة وبقيت لقاءاتها هامشية مناسباتية انفعالية متصلة بالتعاطي مع المستجدات. وكانت تنتظر تحركات الجبهة الشعبية لتنخرط فيها إذ هي الوحيدة القادرة على تحريك الشارع بحكم امتداداتها الطلابية وفي أوساط واسعة من القطاعات الوازنة كالتعليم والاتصالات والصحة والمناجم وغيرها.

وقد ألقت الفترة الماضية المتصلة بحكم الترويكا بظلالها على طبيعة العلاقة بين أحزاب المعارضة في تونس. فالجبهة الشعبية ترفض التواصل مع حزب المؤتمر وحزب التكتل باعتبار مسؤوليتيهما في الحكم إبان الترويكا سنتي 2012 و2013 حيث كانا طرفين في الحكم الذي لم يحم قائدي الجبهة الشعبية شكري بلعيد ومحمد البراهمي وتركهما هدفا سهلا لرصاص الإرهابيين.

كما تعتبر الجبهة أن لهذين الحزبين مسؤولية في كل الخراب الذي تركت عليه الترويكا تونس على كل المستويات وتطالب بمساءلتهما ومحاسبتهما مع شريكهما الثالث وقائدهما حركة النهضة. وهو ما أثر على صورة هذين الحزبين إذ لم يجدا موقعا لا مع السلطة ولا مع المعارضة. فانطفآ أو كادا وفقدا الحضور والتأثير.

بينما أحزاب الجمهوري والمسار وحركة الشعب وحتى التيار الديمقراطي تدور في فلك الجبهة الشعبية التي سماها الرئيس السبسي زعيمة المعارضة. فتشارك في تحركاتها من مسيرات وتظاهرات في الشارع. وتنسق معها البعض من المواقف البرلمانية لا سيما في القوانين الإشكالية كقانون المصالحة الاقتصادية والمالية وقانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني وقانون البنوك.

وحضرت أحزاب المسار والجمهوري وحركة الشعب والتيار الديمقراطي الندوة السياسية الثالثة للجبهة الشعبية مطلع مايو الماضي وألقت كلمات حماسية فيها. وأعلنت تبنيها المطلق لمبادرة الإنقاذ والبناء التي خرجت بها ندوة الجبهة. وشاركت في المشاورات حولها. وساهمت في تكوين تنسيقيتها وهيئة خبرائها ومكتبها الإعلامي.

وبعد ذلك خذلت كدأبها في الخذلان دائما فالمسار أخذ مبادرة الجبهة دون استشارتها وقدمها للرئيس السبسي وطلب منه الدعوة إلى مؤتمر وطني للإنقاذ والإشراف عليه والتعبير له عن الاستعداد للدخول تحت جناحه باعتباره الضامن للدستور. وبعد ذلك مباشرة دعا السبسي الجبهة الشعبية واستمع إلى وجهة نظرها عقب ندوتها الوطنية. وفي ظرف أسبوعين من ذلك أعلن عن مبادرته لتكوين حكومة وحدة وطنية.

الغريب أنّ أحزاب المسار والجمهوري وحركة الشعب سارعت للانخراط في هذه المبادرة رغم أن المشاركين فيها هم عناصر الفشل نفسه منذ 2011 وقبله باعتبارها تضم حركة النهضة التي حكمت تونس بعد 2011 وتركتها رمـادا وأحزابا وشخصيات محسوبة على نظام بن علي الذي ثار عليه الشعب التونسي. فأي وحدة وطنية مع الفاشلين ومن أزاحهم الشعب التونسي من الحكم؟

لا يبدو ذلك مهما عند هذه الأحزاب مادام الهدف هو إعادة التموقع إلى جانب السلطة حيث المنافع والابتعاد عن المعارضة حيث النضال. ولهذا نفضت أيديها بسرعة مما كانت بصدده مع شركائها في المعارضة. وفي هذا السلوك توظيف براغماتي فيه الكثير من الانتهازية السياسية التي توظف النضال السياسي لتحقيق مكاسب ذاتية وشخصية.

الصورة الآن، إذن، خروج حزبين صغيرين جدا من المعارضة والتحاقهما بمنظومة الحكم القائمة. ولا أعتقد أنّ هذا التغيير سيؤثر في طبيعة المشهد السياسي لأن حزبي المسار والجمهوري كانا دائما حجر عثرة يكبل اندفاع المعارضة ويعملان باستمرار على الانحراف بالنضالات من طبيعتها الشعبية الثورية إلى طبيعة مؤسساتية تخضع للتراتبية والسيادة والقيود.

كمـا أني لا أعتقـد أنهما سيكـونـان مؤثرين في منظومـة الحكـم الجديـدة لا سيمـا أن انضمام المسار فيـه اعتـداء على الإرادة الشعبية؛ فهو لم يحصل على أي مقعد في مجلس نواب الشعب وقد بنى حملته الانتخـابية علـى شعـار رئيسـي يتمثـل في معاداة حركة النهضة والالتزام بعـدم مشاركتها في الحكم مهما كانت الظروف. فأي حـزب يحترم نفسه لا يقبـل حقيبة وزارية دون سند شعبي ولا برلماني ويظل تحت رحمة خصومه الألداء. وأي أغلبية تحترم الإرادة الشعبية لا تقترح الحقائب الوزارية على أحزاب أسقطتها الانتخابات.

كل ما فعله حزبا المسار والجمهوري اللذان التحقا بالحكومة هو مساعدة الائتلاف الحاكم على تبرير استمراره في سياسات الفشل والتبعية، والأخطر هو الشرعنة لعودة أعوان نظام بن علي إلى الحكم تجسيدا لرؤية الرئيس السبسي التي عرضها في قانون المصالحة الاقتصادية والاجتماعية الذي كان المسار والجمهوري من أشدّ معارضيه.

سيغادر المسار والجمهوري ساحات النضال الشعبي من أجل المبادئ والحقوق والحريات بحكم التزامهما بوهم الوحدة الوطنية. ولكن المعارضة التونسية مازالت أصواتها عالية وثقة الشعب التونسي بها تزداد يـوما بعد يـوم. والانحياز للشعب وهبـة النفس لخدمتـه ليس شعارا ولا بضاعة تباع في سوق المزايدة السياسية بحثا عن المكاسب وإنما هو إيمان حقيقي ينتج ممارسة يومية تعرف طريقها وتميزه جيدا رغم الضباب والالتباس الطارئ.

كاتب ومحلل سياسي تونسي

8