المصريون استوعبوا أخيرا درس سيناء

التجربة المريرة التي خاضتها جيوش كل من سوريا واليمن والعراق وليبيا وأخيرا السودان قدمت دروسا قاسية في النتائج التي تتمخض عن التفريط أو التهاون في الحفاظ على تماسكها.
الاثنين 2023/06/26
فاغنر دقت جرس الإنذار لجهات عدة في العالم

بدأ الكثير من المصريين يستوعبون الآن لماذا قامت أجهزة الأمن في بلدهم بإنهاء أي مظاهر مسلحة في سيناء، سواء مع المتطرفين والإرهابيين أو بعض القبائل التي اعتادت حمل السلاح للدفاع عن مصالحها بعد معاناة لفترة طويلة من غياب الأمن، وقد دفع الجيش المصري ثمنا باهظا من الأرواح والأموال لمنع ظهور جماعات مسلحة وتحويلها إلى ميليشيات ضاغطة على الدولة مستقبلا.

ما حدث في روسيا عقب تمرد قائد قوات فاغنر يفغيني بريغوجين يعزز القناعات بأن التضحيات التي قدمت في سيناء لا تضاهى بأي خسائر ممكنة لاحقا لو أن أجهزة الأمن أرخت قبضتها في التعامل مع من أرادوا تحويلها إلى تورا بورا في أفغانستان أو ليبيا أو السودان، والسماح لهم بامتلاك قوة عسكرية خارجة عن إرادة الدولة.

من الصعب أن يتخيل المرء التحدي السافر الذي أظهره قائد فاغنر للجيش الروسي والخروج عن طوعه، فالموقف جر معه أسئلة عديدة وعميقة، وقد تفضي إلى نتائج حرجة، أقلها وقف المعارك في أوكرانيا بهزيمة منكرة لموسكو، وأشدها نشوب حرب أهلية في روسيا التي تملك جيوشا عدة وتعج بأزمات معقدة في الكثير من جمهورياتها.

تمتد دلالات ما حدث في روسيا إلى دول أخرى، حيث أوصلت رسالة بالغة الأهمية لمن تعاملوا بحزم مع الكيانات المسلحة، وكسب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي تفوقا جديدا أمام من عارضوا إعادة ترشيحه لفترة رئاسية أخرى في الانتخابات المقبلة دون أن يبذل جهدا، وجاءته أزمة فاغنر لتعيد الاعتبار لما قام به من إجراءات أمنية صارمة للقضاء على النتوءات المسلحة التي كانت تبحث عن تثبيت أقدامها في سيناء.

المصريون يتفهمون الآن أسباب حرص قيادتهم في السنوات الماضية على دحر أي جماعات حاولت التمسك بحمل السلاح أو رفعه في وجه الدولة

انتبهت القاهرة مبكرا لخطورة السماح بحمل السلاح من قبل الجماعات الدينية والقبلية وقامت الأجهزة الأمنية النظامية بسد الثغرات التي يمكن أن تفتح لها الباب، من خلال تقوية أذرع المؤسسة العسكرية بفروعها المختلفة، دون الحاجة إلى القبول بأي أجنحة موازية أو الرضوخ لابتزازات من حاولوا التمركز في أماكن نائية.

نجحت أجهزة الدولة في مطاردة كل هؤلاء أينما كان تمركزهم داخل البلاد أو خارجها، ولاحقتهم بأدوات متباينة طالما رأت أنهم يمثلون تهديدا للدولة المصرية.

تلافت المؤسسة العسكرية الأخطاء التي ارتكبت في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك عندما جرى غض الطرف عن تمركز بعض التنظيمات الإسلامية في سيناء، وتعاملت معها عقب تضخم دورها أثناء حكم الإخوان بقبضة حديدية، وكان سقوط الإخوان الورقة الرابحة التي مكنت الجيش من إنهاء أسطورة تموضع القاعدة أو داعش أو غيرهما في سيناء بعد وقت قصير من بدايتها.

تتوارى المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها المصريون كلما انهارت دولة عربية أو دخلت في صراعات مسلحة، وربما يحصل الرئيس السيسي على دعم شعبي جديد بعدما تتكشف الكثير من تفاصيل الأزمة في روسيا، فالموقف الثابت من عدم وجود أي جهة في مصر تملك سلاحا سوى الأجهزة الأمنية الرسمية تتأكد نجاعته مع أول طلقة يمكن أن توجهها الكيانات العسكرية الموازية والميليشيات للجيوش النظامية.

مهما كانت المزايا التي قدمتها قوات فاغنر لموسكو في أوكرانيا وسوريا وليبيا وأفريقيا الوسطى ومالي والسودان وغيرها، لن تساوي شيئا أمام الخسائر التي يمكن أن تتكبدها الدولة إذا لم يتمكن الجيش الروسي من كبح تمردها سريعا، فالخطاب السريالي الذي تبناه زعيمها مخيف ويمكن أن يحقق ما عجزت عنه الآلة الغربية بكل ثقلها.

يفخر المصريون بمؤسستهم العسكرية المنضبطة، وفي أشد الأوقات غضبا من جانب البعض بسبب انخراطها في مشروعات اقتصادية لم يتشكك أحد في الدور الذي تلعبه للدفاع عن الدولة والحفاظ على ثرواتها ووحدتها وأمنها واستقرارها، وقدرتها على تقويض المحاولات الساعية للنيل منها، وتصميمها على وجود قوة عسكرية واحدة.

لم تعرف مصر الميليشيات أو الجيوش الموازية أو الحركات المسلحة المنفلتة، ولم تلجأ إلى الاستعانة بالأذرع المسلحة لمساعدة الجيش والشرطة في حفظ الأمن، وفي خضم الانفلات الأمني عقب ثورة يناير 2011 تشكلت جماعات شبابية في بعض الشوارع للدفاع عن مناطقها، وعندما استردت الشرطة عافيتها عادت إلى مواقعها.

كانت، ولا تزال، فكرة الميليشيات في الداخل والخارج خطا أحمر للدولة المصرية، لم تسع إلى تشكيلها ولم ترغب في التعامل معها أصلا في دول أخرى، وهو ما جعل الموقف المصري ثابتا من التقدير المتعاظم للجيوش النظامية والعمل على تقويتها، فانهيار الجيوش هو الباب الذي تدخل منه كل الشياطين الخارجية.

القاهرة انتبهت مبكرا لخطورة السماح بحمل السلاح من قبل الجماعات الدينية والقبلية وقامت الأجهزة الأمنية النظامية بسد الثغرات التي يمكن أن تفتح لها الباب

قدمت التجربة المريرة التي خاضتها جيوش كل من سوريا واليمن والعراق وليبيا وأخيرا السودان دروسا قاسية في النتائج التي تتمخض عن التفريط أو التهاون في الحفاظ على تماسكها، وهو ما جعل القاهرة تتعامل مع المؤسسات العسكرية النظامية دوما بأريحية ولو ارتكبت أخطاء، لأن البديل فادح على الدولة والإقليم.

يتفهم المصريون الآن أسباب حرص قيادتهم في السنوات الماضية على دحر أي جماعات حاولت التمسك بحمل السلاح أو رفعه في وجه الدولة، ويمكن القول إن الدعاية الإخوانية للمتاجرة بما أسمته “مذبحة ميدان رابعة العدوية” سقطت لدى من تعاطفوا معها واعتقدوا أن أجهزة الأمن نكلت بمن رفعوا السلاح في وجهها بلا مبرر.

ما حدث في روسيا والسودان سوف يرخي بظلاله المتنوعة على مصر وغيرها من الدول التي تتشدد ضد الجماعات التي تتمسك بحمل السلاح والتمرد على الجيوش النظامية، وسواء كانت كبيرة أم صغيرة، وفي المركز أم في الهامش، من الضروري أن يقتصر امتلاك السلاح على أجهزة الدولة المنوط بها الحفاظ على الهدوء.

يقطع تمرد زعيم فاغنر الذي خرج من رحم الدولة الروسية ذاتها لأهداف تكتيكية وأخرى إستراتيجية، الحديث عن الخطأ الفادح الذي يرتكب عند تسليح كيانات موازية للجيش ولو كان الهدف منها مساعدته في حفظ الأمن والاستقرار وتحقيق الطموحات، ويعيد الاعتبار للمؤسسة العسكرية الأم وتقويتها تحت العباءة الرسمية للدولة.

على الدول التي سمحت بكيانات مسلحة أو صنعتها أو تراخت في مواجهتها أن تدرك مدى الخطورة التي ينطوي عليها تضخمها وتمددها وتحولها إلى ظاهرة يصعب القضاء عليها، فخروجها من رحم الجيش نفسه أو قيامها بأداء خدمات جليلة للدولة لا يعنيان السيطرة عليها، فعندما تتفاوت المصالح بين الجانبين يمكن أن ينفجر البركان.

دقت فاغنر جرس الإنذار لجهات عدة في العالم، وحتى لو كان قائد هذه القوات متواطئا أو عميلا لجهات غربية أو عاد إلى حضن الرئيس فلاديمير بوتين، فإعلان التمرد الذي قام به على قيادته العسكرية والسياسية يشير إلى أن هناك فصولا خفية سوف تواجهها الدولة الروسية من الصعب توقع نتائجها.

8