المصالحة الوهمية.. الفلسطينية سابقا

قادة الحركات الفلسطينية يتجاوبون مع دعوات المصالحة دون بذل جهود حقيقية تقود إليها وينخرطون في حوارات يدخل بعضها في عمق القضايا وما إن يرحلوا عن البلد المضيف ينفض كرنفال المصالحة.
السبت 2022/10/22
مصالحة خطفت لقب "الوهمية" باقتدار

عبرت الجزائر عن تفاؤلها بالتوصل إلى مصالحة بين الفصائل الفلسطينية، وصدر عن الاجتماعات التي استضافتها مؤخرا بيان يستطيع أن يجد فيه كل طرف ما يريده إلا المصالحة الوطنية التي جرى التعامل معها باستخفاف سياسي.

اعتقدت الدولة الراعية أن جلسة واحدة، أو أكثر، تكفي للتسوية بين الفصائل وإنهاء الخلاف المستمر منذ سنوات، والذي جرى التعرض له في عواصم عربية عديدة، أبرزها القاهرة التي خاضت في أدق تفاصيل التباين الفاضح بين فتح وحماس وصاغت بيانات كثيرة شاركت فيها جميع الفصائل، وكلها أكدت على المصالحة.

يتجاوب قادة الحركات الفلسطينية مع دعوات المصالحة من دون بذل الجهود الحقيقية التي تقود إليها، وتستوجب تقديم تنازلات ملموسة ليتسنى نجاحها، وينخرطون في حوارات يدخل بعضها في عمق القضايا، وما إن يرحلون عن القاهرة أو غيرها ينفض كرنفال المصالحة. هكذا يبدو الأمر مع الجزائر التي أرادت قيادتها الظهور كمن يوفي بتنفيذ وعد قطعه على نفسه بلا تقدير للفائدة السياسية العائدة على أصحاب القضية.

كان التعامل مع ملف المصالحة في الجزائر بعيدا عن جوهرها، ولم يدرك من قاموا عليها حقيقة القضية، بدليل أن البيان الختامي حوى عبارات فضفاضة يصعب تطبيقها، وهو ما قلل من قيمة الاجتماعات التي عقدت، فمن يراجع المفردات التي حواها لا يستطيع أن يتفاءل بتنفيذها، فقد ضربت الفصائل عرض الحائط باتفاقيات واضحة حوت خارطة طريق محددة لعبور النفق المظلم الذي تعيشه الفصائل منذ سنوات.

قد تكون الجزائر أحسنت الظن بالفصائل الفلسطينية أكثر من اللازم.. وكان عليها أن تختبر نوايا كل فصيل عبر تقديم تنازلات محددة تسهم في تشكيل حكومة وحدة وطنية

أرادت الجزائر تحقيق نصر سياسي ومعنوي، ربما نجحت في غرضها، غير أن فعل المصالحة الفلسطينية أبعد من ذلك بكثير، لأن أطرافها الرئيسية غير معنية بالوصول إليها طالما أن نتيجتها ستقود إلى تنازل عن مكاسب يعتقد قادة الحركات الفلسطينية أنهم حصلوا عليها بكدهم وتعبهم وتضحياتهم، ولا يجب أن ينافسهم فيها أحد.

أصبحت الصيغة التي وصلت إليها حركتا فتح وحماس مريحة لكلتيهما، وأي تجاوب مع دعوات للمصالحة من الجزائر لا يعني القبول بما يتمخض عنها، فالرفض الصريح يعني عدم الرغبة في الحل، وهو ما يصعب إعلانه صراحة.

ولذلك يتم اللجوء إلى ترك التطورات لتتكفل وحدها بالإجابة المباشرة وتقديم الرفض، الأمر الذي حدث في مرات عديدة، فلا توجد حركة تجرؤ على مخاصمة المصالحة، ولا يوجد فصيل يملك القوة اللازمة ليعلن مقاطعة حوارات توافر لها زخم إقليمي.

يظل نسف المصالحة من داخلها أيسر على الجميع من خارجها، فبسهولة تستطيع أي حركة أن تجد الثغرات السياسية الكافية للنفاذ منها وتخريب الجولة الجزائرية من المصالحة وتحقيق غرضها في الممانعة التي باتت لها أولوية، لأنها أداة يمكن من خلالها الحفاظ على صيغة لكم غزتكم، ولنا ضفتنا، أي تحافظ حركة حماس على هيمنتها على قطاع غزة، وتسيطر حركة فتح على ما تبقى من الضفة الغربية.

تحاول باقي الفصائل الحفاظ على توازناتها بين الحركتين، تميل إلى هذه تارة وإلى تلك تارة أخرى، وكلتاهما تقبض على بعض المفاتيح المادية والمعنوية التي تريد الحركات الأخرى تحاشي غلق الأبواب أمامها، لأن اللعبة قد تختل في أي لحظة، فكل من الحركتين تواجه تحديات ربما تؤثر على حظوظها في الحفاظ على ما جرى حصده من مكاسب سابقة.

تحولت المصالحة إلى سراب يحسبه الظمآن ماء، وهو ما ينطبق على المساعي التي قامت بها الجزائر، حيث قادتها الصورة العاطفية عن القضية الفلسطينية إلى إمكانية التوصل إلى إنجاز في بضعة أيام، ولم تتعب نفسها في البحث عن الأسباب التي جعلت جميع الجهود العربية السابقة تفشل، وصممت الجزائر على إعادة اختراع العجلة التي مضى على اختراعها عشرات السنين، أملا في أن تقدم للفلسطينيين عجلة بسرعة جديدة تمكنهم من عبور ملف المصالحة.

يعلم الفلسطينيون، شعبا وفصائل، أن الأجواء العامة غير مواتية لتحويل المصالحة الوهمية إلى واقع، فالمسافات البعيدة بين فتح وحماس تحتاج إلى وقت طويل لتجسيرها. والأهم إلى نوايا حسنة من الطرفين، غير متوافرة حتى الآن، وفي ظل ما يعتمل داخلهما من تجاذبات لن تتمكن الجزائر أو غيرها من الحل، والذي يحتاج أولا إلى فك الألغاز التي يحفل بها قاموس كل حركة.

الجزائر أرادت تحقيق نصر سياسي ومعنوي، ربما نجحت في غرضها، غير أن فعل المصالحة الفلسطينية أبعد من ذلك بكثير، لأن أطرافها الرئيسية غير معنية بالوصول إليها

تتعايش الحركتان (فتح وحماس) مع الواقع الراهن وقبلتا به عن طيب خاطر لأنه الوسيلة الوحيدة التي تحقق الزعامة لكلتيهما، والأداة التي تعفي المجتمع الدولي من مسؤوليته عن القضية الفلسطينية، ففي كل مرة يتم حث قوى دولية على التدخل لحل القضية تطفو ورقة الانقسام، ما يوحي أن هناك من يرتاحون إلى استمرار الانسداد.

تأقلمت إسرائيل مع الحالة الفصائلية ووجدت فيها مخرجا للكثير من التعقيدات التي واجهتها من قبل، وعندما قرر أرييل شارون الانسحاب من قطاع غزة فجأة منذ نحو عقدين وإخلاءها من المستوطنات كان يعلم أن ما يمكن الوصول إليه عن طريق الانسحاب وما سيترتب عليه من انقسام يفوق ما يتم تحقيقه من خلال الاحتلال.

تفهم الحركات الفلسطينية بأنواعها المختلفة هذه المعادلة جيدا، ونجحت في التعامل مع التشابكات المحلية والإقليمية والدولية على طريقتها، وتحصر اكتراثها بالمصالحة في النطاق الظاهر، وعندما تصل إلى جوهرها تتراجع، ولن يعجز كل منها في إيجاد المبررات التي تساعده على الهروب إلى الأمام وإلقاء المسؤولية على أطراف أخرى.

قد تكون الجزائر أحسنت الظن بالفصائل الفلسطينية أكثر من اللازم وخدعتها الشعارات البراقة والعبارات الرنانة والصور الجذابة، وكان عليها أن تختبر نوايا كل فصيل عبر تقديم تنازلات محددة تسهم في تشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى إدارة الأراضي الفلسطينية، وإجراء انتخابات عامة، لكنها لم تخض في تفاصيل القضيتين.

تعلم القيادة الجزائرية أن الأزمات المتراكمة سوف تؤدي إلى نسف مهمتها قبل أن تصل إلى القمة العربية المقبلة، والتي خططت لانعقادها وهي تريد أن تملك شيئا يوحي بنشاطها الدبلوماسي، وأنها لن تدخلها وهي خالية الوفاض بعد تلقيها صدمة مبكرة بشأن غلق ملف عودة سوريا في هذه القمة.

خطفت المصالحة الفلسطينية لقب “الوهمية” باقتدار، لأن كل المحاولات التي بذلت لتحقيقها تبخرت عند أول اختبار عملي تمر فيه، فبعد أن تأقلمت غالبية الفصائل مع الوضع الحالي، وشيدت ولاءاتها الحركية والمناطقية والسياسية بشكل مستقل، بات كل طرف يدير ظهره للآخر ويمضي في طريق مختلف ومن الصعوبة تفكيك العلاقات وما يصاحبها من أدوار خارجية، ما يجعل المصالحة فعلا أشبه بالمستحيل.

8