المصالحة المتعثرة بين الإخوة الأعداء في كردستان سوريا

الصحوة المتأخرة في كل شيء غالبا ما تكون مكلفة وصعبة ومعقدة للغاية لكن الأمر الأكثر صعوبة وتعقيداً وتكلفة هو الإدمان على الصحوة المتأخرة هذا إن كانت هناك صحوة بالأساس.
الخميس 2022/05/05
حبر على ورق

ثلاث سنوات تقريبا والولايات المتحدة تدعي أنها تسعى لكسر الجمود وإذابة الجليد بين الفرقاء السياسيين الأكراد في سوريا، خدمة لمصالحها وأجنداتها في المنطقة، وكذلك خدمة للقضية الكردية، إلا أن المسعى الأميركي لم يسفر عن أية نتيجة حتى الآن.

الأسباب متعددة وراء الإخفاق الأميركي، لعل أهمها يكمن في الطبيعة البدائية والمتصلبة للعقل السياسي الكردي في سوريا، وتبعية أصحابه للمحاور الكردستانية المتعادية في أربيل وجبال قنديل. هذه المحاور التي تلقي بظلال خلافاتها القاتمة على القوى السياسية التابعة لها في كردستان سوريا، إلى درجة تمنعها من التحاور والتفاهم. وفي الوقت الذي تتهافت فيه هذه المحاور على مواقع النفوذ لدى الأكراد في سوريا دون إيلاء أي اهتمام للمخاطر المحدقة بهم، وما تعرضوا له من كوارث طالت وجودهم وديمغرافيتهم واقتلعتهم من جذورهم منذ عام 2018.

أغلب التوقعات تشير إلى أن مهمة المبعوث الأميركي ديفيد براونشتاين في إصلاح ذات البين بين الإخوة الأعداء، حزب الاتحاد الديمقراطي التابع لحزب العمال الكردستاني وقيادته في جبال قنديل والذي يقود الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا من ناحية، وبين المجلس الوطني الكردي التابع للحزب الديمقراطي الكردستاني في أربيل والقريب جدا من تركيا من ناحية ثانية، ستتوج مساعيه أيضاً بالفشل على غرار سلفه الجمهوري وليام روباك، لقتامة المشهد السياسي الكردي وبدائية تعاطي الإخوة الأعداء مع السياسة.

تعبير “الإخوة الأعداء” قديم ورائج في الأدب قبل أن ينتقل لاحقاً إلى العلوم الإنسانية. الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس له رواية بعنوان “الإخوة الأعداء”. في روايته يغطي كازانتزاكيس أحداث الحرب الأهلية في وطنه اليونان بين عامي 1946 و1949 بين جيش الحكومة اليونانية المدعوم من قبل بريطانيا والولايات المتحدة والجيش الديمقراطي اليوناني (قوات الأنصار) الجناح العسكري للحزب الشيوعي اليوناني والذي قاوم الاحتلال الألماني – الإيطالي لليونان أثناء الحرب العالمية الثانية.

لكن البون شاسع بين اليونان التي تحدث عنها كازانتزاكيس في ملحمته الآسرة وبين الأكراد الذين يعتبرون أكثر شعب تنطبق عليه مكنونات صفة الإخوة الأعداء في العصر الحديث والمعاصر. والفرق يتجسد في أن اليونانيين في الفترة التي أشار إليها كازانتزاكيس كانوا يتطاحنون ولكن تحت مظلة وخيمة دولتهم المعترف بها، والتي كانت تحمي وجودهم وخصوصيتهم وثقافتهم كشعب وأمة. بينما الأكراد يعادون بعضهم البعض داخل كل جزء من وطنهم المبعثر رغم عدم وجود دولة تجمعهم، بل هم محاطون بعدة دول معادية لا تتوانى عن تهديد وجودهم وإبادتهم. الأكراد على المستوى الجزئي والكلي يحاربون بعضهم البعض لفظاً وفعلا، ومكتسباتهم الجزئية والمحدودة هنا وهناك وكذلك وجودهم كشعب وأمة على المحك. إنهم يستحقون بجدارة هذا اللقب المحزن المخزي.

منذ اليوم الأول لانطلاق ما بات يعرف بمسلسل “فانتازيا الحوار الكردي – الكردي المضحك – المبكي في سوريا”، لم يتم تعليق أية آمال عليه، والسبب ببساطة أن فاقد الشيء لا يعطيه. وفي هذا السياق، لا يمكن إلقاء اللوم فقط على ممثلي الطرفين المنخرطين في المباحثات، لأن العاهة جماعية وليست مقتصرة على شخصيات وأحزاب معينة دون غيرها. انظروا مثلا إلى كردستان العراق، في عام 1998 أرغمت واشنطن الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) والاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) على وقف الاقتتال وعقد اتفاق محاصصة حزبية هشة أبعد الإقليم عن الديمقراطية وحكم المؤسسات أكثر مما هو بعيد عنها بالأساس.

توقف التناحر بين “حدك” و”أوك”، لكنهما لم يتفقا حتى الآن حول الحد الأدنى للبناء وإرساء حكم المؤسسات وفق مفاهيم العصر، وكل ما تم الاتفاق عليه هو تفعيل وتمجيد مبدأ المحاصصة الحزبية والمناطقية والعائلية المقيتة التي أرجأت بدورها التوتر والمشاحنات بين الحزبين لكنها لم تلغها.

الحوار الكردي – الكردي في سوريا مجرد حبر على ورق وخبر على جريدة وعنوان على موقع إلكتروني، ومن الصعب جداً، إن لم يكن من المحال، أن يتمخض عن أي شيء، لانتفاء الحكمة والإرادة والمعرفة والغيرة والنخوة لدى أصحاب الشأن

إذا اتفقت أربيل والسليمانية أو بالأحرى أربيل وقنديل، عندها قد يتفق الإخوة الأعداء في كردستان سوريا، ليس فقط بالمعنى الجيوسياسي، لكن أيضاً بالمعنى الذهني والعقلي والثقافي والمجازي للكلمة والفعل. هذا بدوره يدفعنا إلى تسليط الضوء على ظاهرة ثقافة القطيع والتي بدورها تحيلنا إلى التركيز على مفهوم العقل الجمعي، الذي يعرفه إميل دوركايم بأنه “يعبّر عن المعتقدات والمواقف الأخلاقية المشتركة، التي تعمل كقوة توحيد داخل المجتمع، مما يخلق تضامناً اجتماعياً آلياً من خلال هذا التصور المشترك والمتشابه للمجتمع. وأن هناك ارتباطا ذا تأثير متبادل بين العقل الجمعي والأفكار الاجتماعية في الواقع الاجتماعي نتيجة الضغوط التي يمارسها العقل الجمعي على أفراده”.

لكن السياق الذي عناه دوركايم هو السياق الإيجابي الذي يبعث على الأمل والتفاؤل. بينما سياق التبعية الحزبية والسياسية والمجتمعية السائدة لدى أكراد سوريا لصالح البارزانيين في كردستان العراق والآبوجيين في كردستان تركيا سلبي وسوداوي، يعكس الإدمان على تطبيع وتقديس القديم المتوارث وعدم التفكير نهائيا بإمكانية تفنيده وتغييره.

وهذا بدوره يدفعنا إلى القول بأن المعضلات الجمة التي يكابدها الأكراد في سوريا، على مختلف الأصعدة، لا يتحمل وزرها فقط أحزاب وقيادات معينة. لأن هذه “النخب” لم تأت من المريخ وإنما ظهرت من رحم الشعب الكردي في سوريا، الذي تأبد غالبا على ولادة الساسة المريدين والتابعين والمؤدلجين والضعفاء جدا أمام المال السياسي. وبالتالي، الوباء جماعي وجذوره منغرسة في الحاضر والتاريخ، وأمامنا عشرات السنوات للانعتاق من عصور الظلام التي نعيشها وإتقان ألف باء السياسة وثقافة الحوار والتفاهم والبناء واستقلالية القرار السياسي.

امتهن الكردي في كردستان سوريا التبعية والعيش مهمشاً، وقرر أن لا يعيش إلا تابعاً لأسياده ورموزه في أربيل وقنديل والسليمانية، فكان الكردي في سوريا وما يزال يختلف ويتناحر مع أخيه الكردي من أجل أسياده ورموزه في الأماكن المذكورة، وقد يتصالح شكلياً إذا اتفق أسياده في ما بينهم. يُصّرح ويعلن ويلغي الاتفاقات، على جغرافية الآخرين، وكل من شذ ويشذ عن هذه القاعدة في روج آفايي كردستان يُزاح ويُهمش بشكل أو بآخر.

ولد وترعرع الكردي في غرب كردستان وعقدة الدونية والتبعية تلاحقه أينما وكيفما توجه لصالح إخوته في باقي أجزاء وطنه المتشظي، فلم يستطع أن ينال لقب المناضل والثوري والوطني إلا إذا وهبه إياه أسياده في قنديل وأربيل والسليمانية. وقد تتزحزح وتتغير أمكنة ومقرات مرجعياته، إلا أن تبعيته لا تنزاح قيد أنملة، حتى أنه لم يعد يستطيع أن يتخيل أو يرى نفسه إلا من خلال مرايا وعيون وعقول الأشقاء الكبار، وفقد الأمل بالخلاص والانعتاق إلا من خلالهم، رغم أن الأكراد في سوريا قدموا تاريخيا الغالي والنفيس والدم والمال لنصرة إخوتهم في كردستان العراق وكردستان تركيا.

وبدلا من أن يرد الإخوة الكبار في أربيل وقنديل الجميل والمعروف للإخوة الصغار في روج آفايي كردستان على ما بذلوه من غال ونفيس في سبيلهم، وهم في أوج العوز والحاجة والخطر، نراهم للأسف يتكالبون على النفوذ أكثر من اهتمامهم بالمصير المجهول الذي يترقب إخوتهم، لا يعيرون أدنى اهتمام للمعاناة التي يعيشونها في كردستان سوريا ولا للهجرة المرعبة التي تجتاح ديارهم ولا للأخطار المحدقة بهم من كل حدب وصوب.

الشعب الذي يأبى ممثلوه وتأبى قواه السياسية الاجتماع والتفاوض والاتفاق إلا بواسطة وضغوط خارجية، لا خير فيه ولا في ممثليه وقواه، ولا مستقبل مشرق في انتظاره. خاصة عندما يكون جوهر الخلافات بين القادة والساسة حول المكاسب والمزايا والحصص، وليس حول لب القضية والواقع المزري المحفوف بالمخاطر وبالتالي المستقبل الغامض جداً. هذا عدا أن الوساطات والضغوط الخارجية غالباً ما تكون مؤقتة وزائلة وليست أبدية. الاستهتار بالوقت، ولاسيما من قبل اللاعبين الضعفاء في اللعبة السياسية مأساة إضافية إلى جانب بقية المآسي المتراكمة.

يقول نابليون بونابرت “الغباء ليس مشكلة في السياسة”. لكن الصيغة التي قصدها نابليون هنا هي أن يكون الغباء السياسي استثناءً أو صدفة، وليس قاعدة أو طبيعة متأصلة أو جزءًا من الثقافة السياسية والمجتمعية السائدة.

الصحوة المتأخرة في كل شيء غالباً ما تكون مكلفة وصعبة ومعقدة للغاية، لكن الأمر الأكثر صعوبة وتعقيداً وتكلفة هو الإدمان على الصحوة المتأخرة هذا إذا كانت هناك صحوة بالأساس.

خلاصة الكلام؛ الحوار الكردي – الكردي في سوريا مجرد حبر على ورق وخبر على جريدة وعنوان على موقع إلكتروني، ومن الصعب جداً، إن لم يكن من المحال، أن يتمخض عن أي شيء، لانتفاء الحكمة والإرادة والمعرفة والغيرة والنخوة لدى أصحاب الشأن.

9