"المصادرة" اختصاص حصري للسلطة في الجزائر!

بين بيتي وإلى الثانوية التي يدرُس بها ابني في الرباط، أمرّ أربع مرّات يوميا، على إقامة السفير الجزائري… غادرها السفير، منذ أن قرّرت الدولة الجزائرية القطع الكامل والشامل لعلاقاتها الدبلوماسية مع المغرب، يوم 24 أغسطس – آب 2021، وأبقت الدولة المغربية الشرطي المغربي الذي يحرس الإقامة مستمرا في مهمته. إقامة بلا علم جزائري يرمز لحصَانتها ولهُوِّيتها. وكان ابني سألني قبل حوالي شهر، عما إذا كان في الإقامة ساكن دبلوماسي جزائري يبرِّر وجود شرطي مغربي لحمايتها، أجبته بأني لا أعرف ما إذا كان في الإقامة ساكن، ولكنّها اليوم فاقدة لصفتها الدبلوماسية. وسُلطات الجزائر هي من أفْقدتها تلك الصفة، بإعلانها القطيعة مع المغرب، ولكن المغرب حافظ للإقامة على الحماية الأمنية مراعاة لوضعها السابق، وآملا في أن تستعيده في وضع لاحق.
الخارجية الجزائرية قالت في بيان لها إن المغرب أطلق مسطرة مصادرة مقرّات دبلوماسية جزائرية في الرباط، ضدا على اتفاقيات فيينا.. والحقيقة غير ذلك تماما. الحقيقة هي أن سلطات الجزائر هي التي صادرت مقر السفير المغربي في العاصمة الجزائرية، في سياق مسطرة نزع الملكية، لمّا قالت إنّها ضرورة لتهيئة الحي الذي كانت توجد فيه إقامة السفير المغربي. والحقيقة أيضا، هي أن القنصل العام الجزائري كان منخرطا في مشاورات وتبادل مراسلات مع الخارجية المغربية، ولسنوات، بخصوص مسطرة نزع الملكية للمصلحة العامة، تهمّ خاصة مقرّا دبلوماسيا جزائريا سابقا كان مهجورا لسنوات، ضمن مسطرة نزع الملكية لعدّة مبان لمغاربة ولأجانب في الحي نفسه بالرباط. والحقيقة، الأهمّ هو أن ذلك لا يشغل حكومة الجزائر.. يشغلها أن يكون ذلك الإجراء الإداري المغربي، والذي اطّلعت عليه الخارجية الجزائرية، والذي يؤطر القانون المغربي إمكانية الطّعن فيه من المعني به أو التدخل فيه، قبل التنفيذ. علاوة على أنه اليوم، مجمّد وموقوف التنفيذ، كما أفاد بذلك مصدر دبلوماسي مغربي للصحافة الدولية والمغربية.
السلطات في الجزائر متمرسة على مصادرة حقوق الشعب الجزائري في ثروته الوطنية، في تطلعاته التنموية وفي حرياته العامة. وهي تصادر حق الجزائر في دولة متحسِّسة لمصالح شعبها وناهضة بطموحاته الوطنية
يهم السلطة في الجزائر أن يكون ذلك الإجراء مادّة لافتعال مظلومية من فِرْية “المصادرة”، لإنتاج حالة “حماس وطني” للالتفاف حول الدَّولة الجزائرية، في ما يُقدَّم على أنه “اعتداء على الجزائر وتطاول عليها”.. وهي الحالة التي بدَت في اسْتصدار بيانات، قالت عنها جريدة الشعب إن “أحزابا ومنظمات تستنكر مشروع مصادرة ممتلكات سفارة الجزائر في المغرب”. الأحزاب والمنظمات هي نفسها التي تتغذى من الولاء للسلطات في الجزائر، وتتنافس دائما في التّعبير عن عدائها للمغرب، بافتعال مُبرِّر أو بدونه. وهي بذلك تدفئ السلطات الجزائرية في عزلتها السياسية والاجتماعية الداخلية، ولكنها لا تفيدها في الخروج منها إلى الاحتضان الشعبي لهم.
الجنرالات في الحكم الجزائري، تخترقهم أزمة قيادة داخلهم.. وفاة الجنرال نزار وشيخوخة الجنرال توفيق، أحدثتا إخلالا في توازنات الفريق الحاكم، ويستفيد من ذلك الاختلال الجنرال جبار مهنا، مدير الاستخبارات الخارجية، وهو المؤثر تقليديا في القرار السياسي.. بينما الجيل الجديد من الجنرالات يطمح إلى مواقع أهم في آليات اتّخاذ القرار. علما بأن الجنرال شنقريحة يعيش مرحلة استنفاد صلاحياته، لأن “رفاقه” يلاحظون تطاوله عليهم، واستغراقه في شكليات قيادة الأركان من نوع الزيارات “الصاخبة” لقواعد الفرق العسكرية، والتي يسوِّقها الإعلام لفائدته، وعلى حساب “زملائه”. كل ذلك وغيره أعجزهم حتى الآن عن الاتِّفاق على مُرشحهم للرئاسيات المقبلة، مما أزَّم الوضع الداخلي أكثر، بكثافة الغموض حول موعد تلك الرئاسيات.
تلك الرئاسيات بات احتمال تأجيلها واردا بعلّة “الهجوم” على استقرار الجزائر من جهات خارجية “معادية”، بينما الوضع يهتز داخليا، بأزمة القيادة وبعودة الروح إلى حراك الشعب الجزائري.. تلك العودة، واضحة، في تنامي مطالب نشطاء المجتمع المدني بإطلاق سراح معتقلي الرأي ورفع الحجز عن الحرّيات العامة. وهي تحركات تستقطب لها حتى قواعد أحزاب الموالاة، عدا عن تجاوب أحزاب يسارية معها، خاصة تلك المتّصلة بالحساسية “القبايلية”. إنه وضع مضطرب، يعمِّق عزلة السلطة في الجزائر داخليا، فضلا عن اتِّساع عزلتها الخارجية، باضطراباتها مع دول الساحل والصحراء ومع إسبانيا وبالقلق الذي يحفّ العلاقات مع فرنسا، هذا فضلا عن الأوجاع من الانتصارات الدبلوماسية المغربية في إقرار الحق الوطني المغربي دوليا.
وضع مضطرب، يعمِّق عزلة السلطة في الجزائر داخليا، فضلا عن اتِّساع عزلتها الخارجية، باضطراباتها مع دول الساحل والصحراء ومع إسبانيا وبالقلق الذي يحفّ العلاقات مع فرنسا
وسيكون الإعلان عن “جمهورية القبايل”، المقرّر نهاية أبريل – نيسان المقبل في نيويورك، عامل توسيع للعزلتين الداخلية والخارجية لحكام الجزائر، لأنه سيفرض عليهم مطاردة مضنية لتداعياته المتوقّعة داخليا والمحتملة في العلاقات الخارجية الجزائرية. مطاردة قابلة لأن تؤجج قطائع السلطات الجزائرية مع أطراف تشنُّجَاتها الخارجية، ومع أطراف توتراتها الداخلية، تيار الحراك و”الحساسية القبايلية”. لكل ذلك، أشعل السلطة في الجزائر زعم “المصادرة المغربية لممتلكات دبلوماسية جزائرية”، لإعلان حالة التّعبئة السياسية العامة، لتحويل الاهتمام الشعبي عن الأزمات الجزائرية الداخلية وتوجيهه نحو تسويغ التحكم في الجزائر شعبا ومقدّرات، وللتعويض عن العزلة بالشعارات وبالحماس لمواجهة متوهمة مع خارجي متوهّم.
الحقيقة أن المصادرة هي ما دأب حكام الجزائر على ممارسته.. صادروا مسعى وطنيا لشباب صحراويين مغاربة، بداية سبعينات القرن الماضي، وزرعوا لغما انفصاليا في الكيان المغربي وفي النسيج المغاربي.. لغما لحوالي نصف قرن وهم يحاولون تفجيره ضد منطق التاريخ ومنطلقات الجغرافيا عبثا. المغرب أبطله ونزع فتيل تفجيره متقدما بقيادة الملك محمد السادس في المشروع الإصلاحي والتحديثي للمغرب، الذي عمّق الوحدة المغربية بناظم تنموي متين وشامل، وضمنه مقترح الحكم الذاتي بمفعوله العميق في دحر محاولة مصادرة السلطات الجزائرية للطموح الوحدوي المغربي.
السلطات في الجزائر متمرسة على مصادرة حقوق الشعب الجزائري في ثروته الوطنية، في تطلعاته التنموية وفي حرياته العامة. وهي تصادر حق الجزائر في دولة متحسِّسة لمصالح شعبها وناهضة بطموحاته الوطنية.
تلك هي “المصادرات” الحقيقية والمضرة بالجزائر، ومنها ما يفترض ويجتهد حكام الجزائر بأن تكون مضرة بالمغرب ومؤلمة له، بينما المغرب يتألّم لهدرهم لجهودهم السياسية وللمال العام الجزائري في الإدمان على التآمر ضد المغرب. وهم – حقيقة – لا يتآمرون إلا على الجزائر، أوّلا وعاشرا.. أما المصادرة المغربية المزعومة، فهي مجرد طلقات برصاص بارد من قنّاص شارد.