المرجعيات الدينية العراقية وكارثة العبّارة

طرد مصلون غاضبون رئيس الوقف السني في الموصل من جامع رشان في حي المثنى بالجانب الأيسر من مدينة الموصل، خلال زيارته للمدينة المنكوبة بغرق أبنائها في عبّارة الموت في الحادي والعشرين من مارس الحالي، حيث دعاهم إلى الصبر الجميل، فاعتبروا دعوته هذه تغطية على الفاسدين. وعتب الموصليون على المرجعية الشيعية في النجف لعدم استنكارها ما حدث، بينما احتجت على إعدام السعودي نمر النمر، الذي وقف مع إيران ضد بلده.
والواقع، أن العراقيين جميعا وعوا مبكرا أن فسادا كبيرا يشوب حياتهم بكل نواحيها، ولكنهم وعوا أيضاً أن المؤسسة الدينية لها سهم بما هم فيه، فأطلقوا هتافهم الشهير “باسم الدين باكونا الحرامية”، أي باسم الدين سرقنا اللصوص، وهتافهم الأسبق “قشمرتنا المرجعية، أي خدعتنا المرجعية وجعلتنا ننتخب السراق ويتداولون في مجالسهم قصة السرقات في الوقف السني وما تخصصه الحكومة للوقفيْن السني والشيعي، رغم مواردهما الطائلة من العتبات المقدسة والمراقد، وما أكثرها في العراق.
لكن أحدث كشف عن هذا الفساد جاء في مقالٍ كتبه القيادي في حزب الدعوة سليم الحسني، صاحب الدعوة التصحيحية في الحزب، والذي رفض أن يسمّي دعوته انشقاقا، لكثرة الانشقاقات في حزب الدعوة، إذ يقول إن “أفكار ومبادئ حزبنا بعيدة عن السلطوية، بل هو حزب جماهيري ثقافي يقوم على أساس خدمة الناس، وليس لخدمة المسؤولين والتستر عليهم”.
يعتبر الحسني في مقاله “عصبة الخمسة.. قادة الدولة العميقة في العراق” السيد محمد رضا السيستاني، نجل المرجع السيد علي السيستاني، والسيد مرتضى الكشميري، وهو صهر السيستاني، والسيد علاء الهندي والسيد أحمد الصافي والشيخ عبدالمهدي الكربلائي، هم قادة الفساد في المرجعية الذين يشكّلون الدولة العميقة، حيث “يضع هؤلاء أيديهم على إمبراطورية المال، التي تكفي لأن تجعل شيعة العراق يعيشون في خير وكرامة من دون الحاجة إلى مرتّبات الوظائف وأجور العمل”.
ويقول “ثم توغّل هؤلاء في الشأن الحكومي، فتقسموا على قسمين، الأول بزعامة رئيس الدولة العميقة السيد محمد رضا السيستاني حيث يتولّى عمليات عزل واختيار رؤساء الوزراء والتأثير على دوائر القرار المهمة. أما الأربعة الآخرون فيتسلطون على ثروات العراق يمتصونها بمعرفتهم وخبرتهم، إلى جانب منظومة الفساد الهائلة من السياسيين والمسؤولين”.
وتوفر قيادة محمد رضا السيستاني للدولة العميقة، طبقا للحسني، الحماية السياسية لرجال الدولة العميقة وأركانها وخصوصاً المعممين الثلاثة (الصافي والكربلائي والهندي) مما جعلهم يتحركون في أفضل ظروف، في مخالفة القوانين وتمرير صفقات الفساد، ومنعهم من الخضوع للاستجواب، كما فعل مع علاء الهندي، فقد استطاع محمد رضا السيستاني بنفوذه أن يمنع حضور الهندي أمام البرلمان، رغم تكرر المطالبات باستجوابه على فساده ومخالفاته القانونية.
ويشير الحسني إلى أن للمعمم مرتضى الكشميري، صلاحيات مطلقة عريضة في أرجاء العالم، لا أحد يعرف ثرواته، ولا يمكن متابعتها وحسابها ورصدها، فهو يتجوّل في دول أوروبا وأميركا وآسيا وأفريقيا، وتأتيه الأموال مع حركة الرياح والسحب والأمطار وشروق الشمس وغروبها.
إنها شهادة من داخل البيت الشيعي، لكن ما يقوله الحسني متداول بين العراقيين، فمحمد رضا السيستاني، لم يؤسس دولة عميقة فقط، بل أنه عزّز منهجا خطيرا لعزل المرجع عن الأمة، وهذا أخطر ما يهدد المرجعية، لأن المرجعية هي القيادة العليا للشيعة، وعندما يضع الأبناء والأصهار حاجزا بين المرجع وبين الأمة، ثم يتحكّمون ببوابته، فإنهم يحرمون الشيعة من قوة المرجعية، كما أنهم يتسببون في إضعاف مقام المرجعية وقوتها وقيادتها، وهو ما يؤكده الحسني، أيضا.
وعندما تصاعدت تظاهرات العراقيين في أغسطس وسبتمبر 2015 متهمة المرجعية بحماية الفاسدين، طلع على الناس أحد أركان الدولة العميقة، وهو أحمد الصافي متحدثاً باسم المرجعية، في خطبة الجمعة، ليجدد دعوة المرجعية إلى القضاء وهيئة النزاهة بملاحقة الفاسدين واسترجاع الأموال التي “استحوذوا” عليها.
بالمقابل، طالب إمام وخطيب الجمعة في مسجد الكوفة مهند الموسوي (من التيار الصدري) الحكومة بحلّ مجلس القضاء الأعلى وإقالة أعضائه، وقال في خطبته، التي ألقاها في مسجد الكوفة إن “التظاهرات الجماهيرية التي انطلقت لإدانة فساد الحكومة طفت على سطحها شبهات وتشكيكات مست الدين وأهله الغرض منها إسقاط رمزية الدين ورمزية علمائه”، داعيا إلى “الحذر من الأبواق المشبوهة التي تريد خلط الأوراق وتشويه الحقائق من أجل الطعن بالدين وجميع رجالاته وإسقاط رمزيته من النفوس”.
وبعد أسبوعين من هذه الدعوة، استبق المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني تداعيات وتطورات التظاهرات التي خرجت في بغداد ومدن الجنوب العراقي، وظهر، في تصريحات نادرة لوكالة الصحافة الفرنسية، مطالبا بمحاربة الفساد والمفسدين، والتحذير من تقسيم العراق في حال لم تمض حكومة حيدر العبادي في تنفيذ إصلاح حقيقي لمكافحة الفساد، مؤكدا أن مرجعيته طالما دعت إلى مكافحة الفساد وإصلاح المؤسسات الحكومية، وتحسين الخدمات العامة، وأنه سبق أن حذّر من مخاطر التسويف.
وعلى ما يبدو فإن صيحات المتظاهرين العراقيين وصلت إلى مسامع السيستاني في النجف، فأدرك خطورة الموقف، وأن هذه التظاهرات إذا ما استمرت من دون أن تجد لها صدى في إصلاح يقنعها، فإنها قد تنقلب حتى على مرجعيته.
إن في المرجعيات الدينية العراقية من هو ضد الفساد، بالتأكيد، إلا أن غضبة الوسط الشيعي بسبب هذا الفساد لن تقتصر على الفاسدين فقط، ولكن على مجمل المؤسسة الدينية وعلى كل معمم، لذلك ليس مستبعدا أن يطلع من هذه المؤسسة من يدعو إلى الإصلاح ويطالب بإسقاط الفاسدين.
ولعلّ كارثة عبّارة الموصل ستجعل أصوات الناقمين على الفساد في المرجعيات الدينية ترتفع، فلهذه الكارثة، بالتأكيد، ما بعدها.