المد والجزر في الانتخابات المصرية

في كل مرة يتحدث فيها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، المرشح لفترة رئاسية جديدة، سيجد مدا وجزرا، فهناك من يلومه على قضية أو مشكلة، وهناك أعداد أكبر تشيد به وتمجد إنجازاته، وهو شخصيا يبدو مرتاحا لما أنجزه ويراهن على استمراره.
أرسى الرئيس السيسي على مدار نحو عشر سنوات مدرسة جديدة للحكم في مصر، بعيدة عن كل مدارس الرؤساء الذين سبقوه، ووضع منهجا لنفسه لا يريد تغييره، وبصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف معه، أو ما حققه وما لم يحققه هذا الطريق، فالرجل على قناعة تامة بمنهجه ويصمم على مواصلته خلال فترة رئاسته الثالثة.
لذلك لن يجد إجماعا تاما على مساره، فمؤيدوه يرون أنه تمكن من وضع لبنات لجمهورية جديدة تقوم على التنمية ونقل الدولة إلى مربع حضاري واعد، بينما يعتقد معارضوه أنه انحرف عن ثوابت الشخصية المصرية وأهمها الذخيرة الحية من التنوع في المجالات المختلفة وقام بتنميط السلطة التنفيذية وصبغها بطابع شبه عسكري.
◙ عملية الهبوط الناعم من قبل السلطة والصعود الخشن من جانب المعارضة تظل من الإشكاليات التي تواجهها مصر، ويجب أن تتمكن من إيجاد مخرج لمنع الوصول إلى صدام
يشير التفاوت في الرؤى إلى أن الرئيس السيسي فقدَ الإجماع الكاسح الذي أوصله إلى سدة السلطة وعليه أن يتقبل صعوبة العودة إلى الوراء، فكل رئيس يفقد جزءا من شعبيته أو يكسب جزءا آخر، وفي الحالتين هناك معارضة طالما سمحت لها الأجواء بممارسة السياسة، وإن أغلقت أبوابها تُوجد نوافذ التواصل الاجتماعي التي نشطت في مصر مثل غيرها من الدول وباتت رقما مهما في المعادلة الإعلامية والسياسية.
تروي الإنجازات نفسها ولا يحتاج المواطن إلى عناء كبير للبحث عنها، لأنها تنعكس مباشرة على حياته، وإذا لم يلمس هذه النتيجة يصعب أن تصل إليه من خلال الدعاية، فمؤتمر “حكاية وطن” الذي استمر ثلاثة أيام وركز على رسم خارطة لما تحقق في السنوات الماضية في عهد السيسي لم يحقق أهدافه بالصورة المطلوبة، لأن التحديات لا تزال كبيرة والإنجازات أمامها شوط طويل ليشعر الناس بمردودها.
من الطبيعي ظهور المد والجزر حيال نظام الحكم، ولن يجد المؤيدون أفضل من موسم الانتخابات الرئاسية للتذكير بخصال السيسي كمرشح ودوره في تحقيق الأمن والاستقرار ومساعيه الدؤوبة لإحداث التنمية، ولن يجد معارضوه أحسن من هذا الموسم للنيل منه ومحاولة تقزيم كل ما نجح في الوصول إليه في أوقات عصيبة.
تمثل عملية الانضباط في الحالتين معضلة أمام المواطنين (المؤيدون والمعارضون) بسبب وجود تضخيم معنوي للإنجازات وتضخيم مواز للعثرات، وهو ما ظهر في النظرة الحالية للسيسي، والتي تعد من قبيل مفاجأة بالنسبة إليه، حيث لم يعتد على رؤية انتقادات بهذه الصورة الحادة، أو كان يعتقد أن مشروعه لا يحتمل التشكيك إلاّ من تنظيم الإخوان بحكم العداوة السياسية التقليدية.
رفع السباق الانتخابي الغطاء عن منصب رئيس الجمهورية وكشف عن غليان سياسي تحته يعتمل في مصر، ظل مكبوتا فترة طويلة، وهذا حال كل الانتخابات، ربما لم يشعر السيسي بذلك في الدورتين السابقتين، لأن الالتفاف حوله كان في أوجه، والصبر على تصوراته كانت له مبررات وتفسيرات عديدة.
◙ الرئيس السيسي فقدَ الإجماع الكاسح الذي أوصله إلى سدة السلطة وعليه أن يتقبل صعوبة العودة إلى الوراء،
يأتي الجزر والرئيس السيسي على أعتاب ولاية جديدة، والغرض من الصخب الذي تحدثه قوى معارضة التأكيد أنها لن تكون بالسهولة لاحقا، وعليه أن يستعد لمواجهة تحديات من نوع جديد، فمعركة الإرهاب طويت غالبية صفحاتها، ولن يتقبل المصريون إعادة خطابها التكاتفي بعد أن أُعلن رسميا القضاء على الإرهاب الذي كان كلمة السر في الصبر الإستراتيجي الذي تحلى به المصريون.
حصل الرئيس السيسي على تفويض شعبي لا يقبل التشكيك في الدورتين السابقتين، وسيحصل عليه في الدورة الثالثة بنسبة أقل، لكنه لن يكون شيكا على بياض هذه المرة، إذ كسرت المعركة الانتخابية الحالية الكثير من حواجز الصمت السياسي، وعليه الاستعداد لمواجهة معارضة أكد مرات عدة أنه لا يقلل من أهمية دورها.
تراهن قوى المعارضة في الداخل على فرض أمر واقع لا يعيدها إلى مطبات المرحلة الماضية، ويتيح لها فرصة للتحرك في الفضاء العام بحرية كبيرة، ومشاركة أحزاب وشخصيات محسوبة عليها بجدية في الانتخابات الرئاسية أول حجر يُلقى في المياه الراكدة، لأن المشاركة أو المقاطعة النسبية في المرتين السابقتين لم تحقق أهدافها.
تتفاعل المعارضة مع الانتخابات الرئاسية في ديسمبر المقبل وهي تعلم أن حظوظها في الفوز شبه معدومة، لكنها تريد الوصول إلى صيغة تقنع السلطة بفتح المجال العام أو حتى تجبرها على القيام بهذه الخطوة، الأمر الذي يجعل دعم مؤيدي الرئيس السيسي يفوق محاولات معارضيه لكسب مساحات جديدة، ويلجأ الفريق الأول إلى التركيز على الإنجازات التي تحققت وضرورة مواصلتها والمزيد من تهشيم عظام الفريق الثاني واستهداف رموزه باعتبارهم يسعون لتعطيل هذه المسيرة.
ترفض الطبيعة المصرية الفوضى ولا تقبل القبضة الحديدية وترتاح إلى صيغة وسط تحافظ على قدر كبير من تماسك الدولة وأمنها واستقرارها، ولا توجد ممانعة صارمة للسيسي وما حققه على هذا المستوى، لكن ثمة رفضا لبعض المقاطع في المنهج الذي يتبعه، وهي رسالة وصلت إليه مؤخرا من خلال جلسات الحوار الوطني وتزايد انتقادات المعارضة، ومن الواجب أن تظهر لها بصمات في الولاية الرئاسية الثالثة.
◙ الرئيس السيسي أرسى على مدار نحو عشر سنوات مدرسة جديدة للحكم في مصر، بعيدة عن كل مدارس الرؤساء الذين سبقوه، ووضع منهجا لنفسه لا يريد تغييره
يؤكد قريبون من السلطة أن الرئيس السيسي يعتزم إجراء تغييرات كبيرة في الحكومة وقطاعات عديدة في الدولة بعد الانتخابات، سوف يتوقف التجاوب معها على حجمها ونوعها وقدرتها على إحداث حراك فوقي واسع كبديل عن أي حراك يأتي من أسفل وله مخاطره المتباينة، وهو أمل يراهن عليه كثيرون يخشون نتائج البديل الثاني.
تظل عملية الهبوط الناعم من قبل السلطة والصعود الخشن من جانب المعارضة من الإشكاليات التي تواجهها مصر، ويجب أن تتمكن من إيجاد مخرج لمنع الوصول إلى صدام يجرف الكثير من الإيجابيات التي تحققت السنوات الماضية، وما يرجح كفة الهبوط الناعم أن السخونة التي تتسع في الشارع قد يصعب التحكم في مفاتيحها.
يميل مزاج المصريين إلى عدم التصعيد في المواقف مهما احتدمت الأزمة الاقتصادية واتسعت رقعة الأزمات الاجتماعية، فأي موجة ثورية جديدة يمكن أن تزيد الأوضاع تعقيدا ومأساوية، خاصة بعد رؤية نتائج ثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، حيث كادت الأولى تجرف الدولة إلى نفق مجهول، تمكنت الثانية من تصحيحه.
يمكن أن يتعامل الرئيس السيسي مع حالتي المد والجزر المصاحبتين للانتخابات المقبلة بواقعية وإيجاد صيغة تمكنه وشعبه من العبور الآمن، يتحدث فيها بالمزيد من الوضوح حول ما يريد القيام به في المستقبل بعد حديث الإنجازات عن الماضي.