المدن الذكية العربية تحتاج إلى إعداد طواقم بتدريب عال

سلّط مشروع مدينة “ذا لاين” الذي أعلنت عنه المملكة العربية السعودية الضوء على المدن الذكية في العالم العربي. ووصفت المدينة الذكية بأنها “مدينة الخيال والأحلام والتي تعِد بمستقبل أكثر تحضرا ورقيّا وذكاء”، وهو ما تحدث عنه ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بنفسه عند إطلاقه للمشروع، ولكن كيف تساعد “ذا لاين” في تدشين مستقبل المدن الذكية في العالم العربي؟
الرياض- يتضاعف عدد السكان في الدول العربية كلّ ثلاثة عقود تقريبا، ويتوقع أن يرتفع من نحو 430 مليون نسمة في العام 2019 إلى 851 مليون نسمة في العام 2050. لكن هذه الزيادة السكانية لن تكون موزعة بالتساوي بين الأرياف والمدن، فمع أن نحو 66 في المئة من سكان الدول العربية يعيشون اليوم في المدن (مقابل 55 في المئة من سكان العالم) تسجل المنطقة العربية تحولا حضريا سريعا، فمعدل التحضر فيها ينمو سنويا بمعدل 2.5 في المئة. ويعني هذا أن نسبة سكان المدن في العالم العربي ستبقى في المستقبل أعلى من النسبة المتوقعة لسكان المناطق الحضرية في العالم التي تقدر بنحو 68 في المئة بحلول العام 2050.
ويُلقي تسارع التحول الحضري في البلدان العربية على عاتق حكوماتها تحديات جمّة ويضعها أمام مهمّات مضاعفة، إذ عليها من جهة العمل على إبطاء هذا التحول بمواصلة تنمية الأرياف وتعزيز جاذبية العيش فيها، ومن جهة أخرى عليها أن تستوعب أعداد السكان المتزايدة في المدن، لكن دون أن تكتفي بالمحافظة على مستوى الوضع القائم فيها أو تسعى لكبح تراجعه تحت ضغط زيادة عدد السكان، بل يجب أن تبذل جهودا حثيثة للارتقاء به.
وتتطلب الاستجابة لتلك التحديات من الحكومات العمل على محاور متعددة، اقتصادية واجتماعية وتنظيمية، ولهذا برز اهتمام عالمي وعربي بمفهوم المدن الذكية لتلبية الاحتياجات المتزايدة للسكان بالاستفادة من التطورات التقنية المُصاحبة للثورة الصناعية الرابعة.
وتشمل المجالات الأساسية لتنمية مدينة ذكية ومستدامة: نوعية الحياة، والبنية التحتية والخدمات، وتقنية المعلومات والاتصالات، والذكاء والمعلومات، والمجتمع، والبيئة والاستدامة، والحكم والإدارة، والاقتصاد والمالية، والنقل. ومن الركائز التقنية الرئيسية للمدينة الذكية تطوير الحوكمة الرقمية، وأنظمة النقل، ونظام توليد الطاقة وشبكة توزيعها الذكية، وتوفير المياه، بالإضافة إلى مبادراتها المتعلقة بجمع البيانات وإشراك الجمهور في اتخاذ القرارات. والواقع أن مشروع المدينة الذكية يمثل تحولا اجتماعيا وتقنيا رئيسيا يحدث ثورة في أسلوب عيش مئات الآلاف من سكان المدينة.
مشاريع المدن الذكية العربية
اتجهت الدول العربية إلى التحول نحو المدن الذكية في إطار سعيها لتلبية احتياجات مواطنيها والتصدي للضغوط الناتجة عن تزايد معدلات التحضر، فضلا عن العلاقة الإيجابية القوية بين المدن الذكية والازدهار والنمو الاقتصاديين بالاعتماد على التقنيات المتقدمة لرفع الكفاءة والإنتاجية وتحسين الحوكمة. إلا أن تحديد عدد المدن الذكية في الوطن العربي أو التي قطعت أشواطا متقدمة في هذا الاتجاه، يختلف من مصدر إلى آخر وفق نطاق تصنيفه للمدينة الذكية، فهو يتراوح بين 5 مدن (وهي أبوظبي، القاهرة، الرباط، الرياض، ودبي) في الحد الأدنى كما حددها “مؤشر المدن الذكية 2019” الصادر عن مركز التنافسية العالمي التابع للمعهد الدولي للتنمية الإدارية، الذي ينظر إلى المدن الكبرى ويصنفها وفق مؤشره، أو يصل إلى 24 مدينة، لتشكل نحو 21 في المئة من إجمالي المدن العربية الكبرى التي يبلغ عددها 115 مدينة، كما يذكر تقرير المدن الذكية الذي أعده صندوق النقد العربي.
وقال ولي العهد السعودي ورئيس مجلس إدارة شركة نيوم الأمير محمد بن سلمان خلال إطلاق مشروع مدينة “ذا لاين” في نيوم شمال غربي السعودية “على مدى العصور الماضية، بُنيت المدن من أجل حماية الإنسان بمساحات ضيّقة، وبعد الثورة الصناعية، بُنيت المدن لتضع الآلة والسيارة والمصنع قبل الإنسان”. وأضاف “المدن التي تدّعي أنها هي الأفضل في العالم، يقضي فيها الإنسان سنين من حياته من أجل التنقل، ستتضاعف هذه المدة في 2050، وسيُهجر مليار إنسان بسبب ارتفاع انبعاثات الكربون وارتفاع منسوب مياه البحر”.
وتابع “نحن بحاجة إلى تجديد مفهوم المدن إلى مدن مستقبلية، اليوم بصفتي رئيس مجلس إدارة نيوم أقدم لكم ‘ذا لاين’؛ مدينة مليونية بطول 170 كم، تحافظ على 95 في المئة من الطبيعة في أراضي نيوم، صفر سيارات، صفر شوارع، وصفر انبعاثات كربونية”، متسائلا “لماذا نقبل بأن نضحي بالطبيعة في سبيل التنمية؟ ولماذا يُتوفى 7 ملايين إنسان سنويا بسبب التلوث؟ ولماذا نفقد مليون إنسان سنويا بسبب الحوادث المرورية؟ ولماذا نقبل أن تُهدر السنوات من حياة الإنسان في التنقل؟”.
ويعتقد المهندس السعودي فيصل عبدالعزيز عبدالله الزيبق، الذي لديه أكثر من 12 عاما خبرة في إدارة وتنفيذ المشاريع العملاقة وتخطيط المدن الذكية، أن مدينة “ذا لاين” تمثل لمحة عن مستقبل العالم. وقال “يعيش المزيد من البشر على الأرض أكثر من أي وقت مضى، والمدن مضطرة إلى التعامل مع مطالبنا الجديدة”.
ووفقا لمعدل التوسع الحالي وكيفية تصميم المدن اليوم، تُظهر الدراسات أنه في المستقبل القريب جدا “لن تكون لدى المدن القدرة على الاستمرار.” وأضاف “أعلم أننا على حافة المستقبل ولا يمكنني الانتظار حتى تكون السعودية أول من ينفذ ذلك”.
وقالت سلمى الشيخ، أستاذة في جدة “إنها لحظة فخر كبيرة بالنسبة إليّ أكثر ما أحبه في رؤية 2030 هو أنها لا تتعلق فقط بامتلاك أعظم الأفكار، ولكنها تتضمن رفاهية الإنسان”.
ويقول خبراء “يمكن القول عموما إن الدول العربية تواكب التوجه العالمي في هذا المجال، فلدى كل دولة عربية تقريبا إما مشاريع لتحويل مدنها القديمة إلى مدن ذكية، وإما أنها تعمل على مشاريع إنشاء مدن ذكية جديدة تماما”.
اتجاه عام
ورغم ذلك يختلف تصور المدينة الذكية من بلد إلى آخر، اعتمادا على العديد من الجوانب بما في ذلك مستوى التنمية في الدولة. ومن جانبه، قال المهندس عبدالله غوشة، رئيس هيئة المكاتب والشركات الهندسية في نقابة المهندسين الأردنيين “أفكار بمدن جديدة مثل ‘ذا لاين’ بمنطقة نيوم في السعودية والعاصمة الإدارية الجديدة بمصر ونحن مازلنا بانتظار انتهاء الباص السريع، العالم يتطور بسرعة وعلم إنشاء المدن سواء التكنولوجيا والمدن الذكية وعالم ما بعد كورونا.. أين نحن مما يتم في العالم والمنطقة؟”.
ويتجه العالم بوتيرة متسارعة نحو استثمار الإمكانيات الهائلة التي تتيحها التقنيات الحديثة، وهو ما اتسع إلى بناء “مدن ذكية” ترتكز بنيتها وإدارتها بالكامل على حلول تكنولوجية متقدمة، الأمر الذي لم تكن الدول العربية في منأى عنه، وإنما شهدت هي الأخرى إطلاق عدة مبادرات لتحويل بعض مدنها الرئيسية للنمط الذكي أو تدشين مدن ذكية جديدة.
وعلى الرغم من أن تلك المبادرات تستند إلى مداخل اقتصادية في الأساس، إلا أن بناء مدن “ذكية” يسكنها مواطنون “أذكياء” يثير حديثا آخر عن سوسيولوجيا “المجتمعات الذكية”. كيف يمكن إعداد طواقم مستعدة للتعامل مع أفراد يطورون مداركهم مع كل دخول تقني على الخط لجعل الحياة متسايرة مع المطلوب؟ وكيف يمكن للمواطن أن لا يبالغ فيما يطلبه من البنية التحتية لمثل هذه المدن. وتتبنى بعض الحكومات العربية استراتيجيات جادة على صعيد التحول إلى نظم المدن الذكية.
ويعرف الاتحاد الدولي للاتصالات المدن الذكية بأنها مدن مبتكرة توظف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين نوعية الحياة، وكفاءة العمليات والخدمات الحضرية، والقدرة على المنافسة. وينبغي أن تلبي احتياجات الأجيال الحالية والمقبلة في ما يتعلق بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية.
على الرغم من الاتجاه العربي نحو بناء المدن الذكية لرفع معدلات النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي والتنمية المستدامة، إلا أن تلك المساعي تُعرقلها عقبات جادة على طريق التحول إلى مفهوم “المجتمعات الذكية”، إذ لا يقتصر الأمر على تطبيق التقنيات فحسب، وإنما يرتبط بالمنظومة القيمية المرتبطة بتلك التقنيات التي لا يمكن فصلها عنها بحال من الأحوال، إذ أن إتاحة القدرة للأفراد على التواصل والمشاركة والترابط والانخراط والوصول تؤسس لقيم وثقافة عامة لا تنسجم بحال من الأحوال مع منظومات المجتمعات القديمة أو غير الذكية، إذا جاز التعبير.
فإلى جانب التحديات الاقتصادية والتكنولوجية المرتبطة بالتحول الذكي في العالم العربي والتي تتمحور حول امتلاك الإمكانيات اللازمة لذلك، تكمن مجموعة من التحديات السياسية التي تحول دون تبني قيم المجتمعات الذكية.
وتقول الباحثة المتخصصة في الدراسات الإعلامية فاطمة الزهراء عبدالفتاح “تقوم المدن الذكية على بناء قواعد بيانات ضخمة يتم تجميعها بشكل تشاركي بفضل عمليات التشبيك والتربيط التقنية، وهي المعلومات التي يتم جمعها ومعالجتها وإدارتها عبر ما يسمّى بمراكز المدينة الذكية التي ستكون حكومية بالأساس، الأمر الذي يثير مخاوف بشأن استخدامها للتضييق والرقابة على خلاف الهدف الرئيسي الذي تأسست تلك النظم من أجله”.
كما ترتبط المجتمعات الذكية بمفاهيم البيانات المفتوحة وحق الوصول وغيرها من المفاهيم التي ترتكز على إتاحة المعلومات للمواطنين. ولعل حرمان الأفراد من المعلومات، في مجتمع تسوده الأجهزة الذكية، لا يحول دون إدماج المواطنين في حل المشكلات العامة ومراقبة الأداء وغيرها من الأمور فحسب، ولكنه يفتح المجال أيضا أمام انتشار الشائعات والأحكام الانطباعية والتقييمات الجزافية التي تتمتع بقدرة هائلة على الانتشار.
كما أن تطبيق قيم الانفتاح والترابط والتشبيك والانخراط والتعبير الحرّ والشفافية قد لا يتسق مع المنظومة التقليدية التي تسيطر على العديد من المجتمعات العربية المحلية، إذ أن تلك التقنيات ليست معزولة عن المنظومة القيمية التي أُنتجت في إطارها، وتطبيقها يعني بشكل أو بآخر تطبيق جانب من تلك القيم التي تحملها في تفاصيلها.
فمن غير المجدي، على سبيل المثال، الاعتماد على شبكات ذكية لجمع مقترحات المواطنين بشأن تطوير منظومة المياه في قرية جبلية يحكمها عمدة محلي يرتبط بعلاقات عائلية تمنع السكان المحليين من انتقاد سياساته، وهي التباينات التي تتخذ أبعادا أخلاقية أخرى عند الحديث عن القيم المجتمعية بشكل عام، وهو ما كان محل نقاشات جادة في القمة الدولية السنوية الأولى عن المدن الذكية في شمال أفريقيا التي انعقدت بجامعة الأخوين في مدينة إفران المغربية في يوليو 2014، والتي تناولت أثر اتباع نموذج المدن الذكية على الثقافة المحلية، وانتهت إلى التركيز على البعد التنموي والاقتصادي في تطبيق تلك التقنيات في إقصاء للأبعاد الثقافية والقيمية المرتبطة بها.
بعض الدراسات يفيد أن المدن العربية وفقا لتصميمها الحالي لن تكون قادرة على الاستمرار في المستقبل القريب جدا
كما تكمن مشكلة بناء مدن ذكية في العالم العربي في الفجوة الرقمية التي لا ترتبط فقط بقدرة الأفراد على امتلاك وسائط ذكية تمكنهم من التفاعل مع محيطهم العام، ولكنها ترتبط أيضا بكفاءة وجودة البنية التحتية لخدمات الاتصالات والمعلومات عبر المناطق التي تُعاني من التنمية غير المتوازنة في العديد من دول العالم العربي، والمهارات التقنية للأفراد المرتبطة بمستوياتهم التعليمية.
وتقول عبدالفتاح إن “المواطن الذي يمكنه مراقبة حركة المرور ومخزون ثلاجته عبر هاتفه الذكي، والتعبير عن رأيه عبر شبكات التواصل، والمشاركة في تدريب ينعقد على بعد المئات من الأميال عبر الإنترنت، لن يمكن إبقاؤه غير قادر على معرفة تفاصيل الموازنة العامة، أو أسباب زيادة سعر سلعة ما، أو تجاهل رأيه تجاه سياسات تمسّ مصالحه وحياته اليومية، الأمر الذي يستحيل معه اتباع نفس الطرق التقليدية في إدارة المجتمعات المغلقة، كوسائل الإعلام التعبوية، وضعف قنوات المشاركة والتنمية غير المتوازنة، وغيرها من المعضلات التي تُعاني منها البيئة السياسية العربية”.