المجتمعات العربية "تشيخ": المسنون سيتجاوزون الأطفال قريبا

كل بلدان العالم تقريبا، ومنها البلدان العربية التي لطالما نعتت بأنها “مجتمعات فتية”، تشهد نموا في أعدد كبار السن ونسبتهم بين سكانها. ومن المتوقع أن تكون الشيخوخة واحدة من أبرز التحولات الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين، حيث ستؤثر في جميع قطاعات المجتمع، بما في ذلك سوق العمل والأسواق المالية والطلب على السلع والخدمات مثل السكن والنقل والحماية الاجتماعية، فضلا عن البُنى الأسرية والروابط بين الأجيال.
تونس- لا ينوي محمد (74 عاما) التنازل عن أوراقه التقاعدية الفرنسية أبدا، إذ عمل لمدة 40 عاما في فرنسا حتى حصوله على التقاعد قبل 10 سنوات.
كل 3 أشهر يستقل طائرة من تونس إلى نيس الفرنسية ليزور طبيبه الخاص ويحصل على أدويته مجانا ويجلب راتبه التقاعدي. ورغم أن تنازله عن أوراقه قد يجلب له تعويضا ماليا جيدا ويمكنه الحصول على راتبه من أي بنك في تونس، يرفض محمد الأمر جملة وتفصيلا فأين سيجد رعاية صحية كالتي يحظى بها في فرنسا.
يقارن محمد حاله مع حال أخته هناء (70 عاما) التي كانت أحلامها “بسيطة” قبل التقاعد، قائلا “كانت تتخيل نفسها مسافرة من مكان إلى آخر، مستمتعة بفترة راحة بعد سنوات العمل الطويلة.
وبدلا من التنقل من مكان لآخر، هي اليوم تنتقل في سوق الخضار من بائع إلى آخر محاولة العثور على السعر الأرخص وما تبقى من راتبها التقاعدي بالكاد يكفي لسداد أجرة الشقة التي تسكنها وحدها وشراء أدويتها التي لا يعترف بها الكنام في تونس”.
وتقول هناء الأرملة منذ 5 سنوات “دفعني هذا التحوّل في حياتي إلى التفكير في ما يعنيه عيش حياة مستقلة وكريمة كمسنين. هل ينبغي أن يتراجع تمتعي بحقوقي الأساسية مع تقدمي في العمر؟”.
أنظمة تقاعدية منهكة
رغم أن أول أنظمة التقاعد العربية أقرّت منذ نحو سبعين عاما، وكان ذلك في الجزائر (1949) وبعدها في مصر (1955)، إلا أن هذه الأنظمة لم تشهد تغييرات كافية لتتناسب مع المتغيرات الاقتصادية محليا وعالميا.
وبينما تنهمك الحكومات العربية بحل مشكلات تعتبرها أكثر إلحاحا، يُنسى المتقاعد العربي ويترك وحده لمواجهة صعوبات حياته بعد سنين طويلة من العمل الشاق.
وتعزي دراسات دولية التأخر والعجز العربي عن القيام بإصلاحات في أنظمة التقاعد إلى أسباب عدّة تتعلق ببنيتها أو بالأحداث والتغيرات المحلية؛ فتونس، مثلا، التي شهدت في السابق نظاما تقاعديا متميزا بمعايير المنطقة، تواجه اليوم احتجاجات من طرف المتقاعدين.
ووفقا لتقارير البنك الدولي، تمتعت تونس بمعدلات تغطية كبيرة للسكان في النظام التقاعدي كما أنها كانت ضمن الدول العربية القليلة جدا التي تشمل أنظمتها التقاعدية العاملين في قطاع الزراعة. لكن الأوضاع السياسية والاقتصادية فيها تشهد تدهورا منذ عام 2011، ما دفع المتقاعدين للمطالبة بتحسين أوضاعهم كي يتمكنوا من مواكبة غلاء الأسعار وارتفاع تكاليف الحياة.
ومن أجل ذلك تأسست عدة مبادرات وجمعيات لتنظيم الجهود وتوحيد الأصوات في الضغط على المسؤولين؛ مثل مبادرة عبدالمجيد بلومي الضابط السابق في الأمن التونسي؛ والذي يترأس جمعية المتقاعدين من سلك الأمن.
ويقول عبدالمجيد “إن الأحوال تغيرت اليوم؛ فبسبب غلاء المعيشة يتأخر الشباب في الزواج. الآن تجد كل متقاعد لديه ثلاثة أو أربعة أولاد من خريجي الجامعات الذين لا يجدون عملا، والمصدر الوحيد للإنفاق عليهم جميعا هو راتب التقاعد الخاص بوالدهم”.
وتشير تقارير البنك الدولي إلى أن أنظمة التقاعد العربية تغطي 35 في المئة فقط من السكان، وتوصي بضرورة اتخاذ إجراءات جدية لإصلاح الخطط التقاعدية قبل أن يفوت الأوان؛ فأعداد المتقاعدين في الدول العربية في تزايد مستمر.
وقال صندوق الأمم المتحدة للسكان للدول العربية بمناسبة اليوم الدولي لكبار السن 2021 السبت الماضي إن الارتفاع في عدد كبار السن يشكل ظاهرة عالمية وليست محصورة في المنطقة العربية، حيث أن نسبة الأشخاص الذين يتجاوزون الستين عاما تبلغ 12.3 في المئة من سكّان العالم، وستصل إلى 22 في المئة مع حلول عام 2050. أما في المنطقة العربية فقُدّرت نسبة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين الستين عاما وما فوق بحوالي 7 في المئة، ويرجح أن ترتفع إلى 18 في المئة بحلول العام 2050.
في الوقت الذي ينتظر فيه الكثير من الناس بلوغ سن التقاعد لبدء مرحلة جديدة في حياتهم يضطر الكثير من المتقاعدين العرب إلى إيجاد عمل يسد لهم رمق العيش
وبحسب تقارير الأمم المتحدة، فإن أعداد المسنين (فوق سن الـ65) في المنطقة العربية ستتجاوز أعداد الأطفال (تحت سن الـ15) بحلول عام 2050، ويعود ذلك لعدة أسباب منها تراجع معدلات الخصوبة والولادات وارتفاع متوسط الأعمار في دول مثل لبنان وتونس والجزائر والأردن والسعودية والكويت وغيرها.
وأوضح المؤتمر العربي حول كبار السن الذي احتضنته الرباط قبل عامين أن المنطقة العربية تشهد تحولا ديموغرافيا “عميقا”، من المنتظر أن يتجاوز فيه كبار السن، أي الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 60 عاما، عدد الأطفال دون سن الـ10 لأول مرة في التاريخ، وذلك بحلول عام 2050.
وبينت ورقة علمية أنجزتها الباحثة الجزائرية جويدة عميرة، أن كلا من لبنان وتونس يتجاوز فيهما عدد كبار السن 10 في المئة من إجمالي عدد السكان.
أما المغرب والجزائر وليبيا ومصر فنسبة الأشخاص المسنين في هذه الدول تصل إلى ثمانية في المئة، مقابل ثلاثة في المئة فقط في دول الخليج العربي، خاصة قطر والإمارات.
ورغم بعد المسافة واختلاف وسط العيش، يعيش المسنون في الدول العربية تقريبا نفس الظروف، إذ تؤكد الباحثة أن غالبيتهم تتسم بـ”تدني المستوى التعليمي وارتفاع معدل الأمية ومحدودية المشاركة في الاقتصاد، بالإضافة إلى ذلك، فإن زيادة حركة هجرة العمالة من الشباب أثرت بدورها على وضع المسنين، فارتفعت نسبة إعالة كبار السن فيها”.
آثار ممتدة عبر الأجيال
ينظر كثيرون بقلق إلى هذه التغيرات الجذرية في التركيبة السكانية. وتحاول دول عدة تبني سياسات واستراتيجيات للاستجابة لهذه التحولات الديموغرافية العميقة، وآثارها الممتدة اقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا وحضاريّا. فارتفاع نسبة كبار السن على ما عداها من فئات سكانية يعني أن هذه الدولة أو تلك دخلت في مرحلة “شيخوخة المجتمع”، ما يعني بالضرورة “انخفاض عدد السكان في العمر الإنتاجي”.
وتشمل الآثار المباشرة وغير المباشرة لـ”شيخوخة المجتمع” ارتفاعا مطردا في المخصصات المالية الموجهة للنظام الصحي لكبار السن (تأسيس مستشفيات ومراكز رعاية، وتوظيف أطباء وأطقم تمريض، وإنفاق على بحث علمي… إلخ). كما تشمل ضخ مبالغ مالية لدعم منظومات الرعاية الاجتماعية المخصصة لرعاية كبار السن.
كما تمتد آثار انخفاض عدد السكان في العمر الإنتاجي إلى النشاط الاقتصادي ككل، وكذلك في المجالات العسكرية. كما أنها تُفضي إلى تحولات حضارية وثقافية قد تقلب المجتمعات كبيرة السن رأسا على عقب.
ويشير البنك الدولي إلى أن ارتفاع أعداد المسنين هذا سيضع الدول العربية في مواجهة كوارث متسارعة تعصف بأنظمتها التقاعدية وتدفع بها نحو الهاوية.
ويقول غوستافو ديماركو مسؤول الرواتب التقاعدية في البنك إن شيخوخة السكان ستفرض تحديات جديدة على أنظمة التقاعد العربية “المنكوبة أصلا” إذ سيتوجب على السكان العمل لسنوات أطول ورفع سن التقاعد.
وأضاف “هذه التحديات ستتضاعف في بعض الدول العربية التي يرتفع فيها عدد سكان الريف؛ كما في المغرب على سبيل المثال، وذلك لأن تصميم الأنظمة التقاعدية لم يبنَ بطريقة جيدة تشمل سكان المناطق الريفية والعاملين في قطاع الزراعة أو القطاع الخاص”.
علما أنه لا توجد أنظمة تقاعد رسمية حكومية في عدد من الدول الأخرى كما هو الحال في لبنان مثلا.
وفي الوقت الذي ينتظر فيه الكثير من الناس بلوغ سن التقاعد لبدء مرحلة جديدة في حياتهم ملؤها الراحة من ضغوط العمل والحياة المستمرة، يضطر الكثير من المتقاعدين العرب إلى إيجاد عمل يسد لهم رمق العيش ويضمن لهم حياة كريمة، لكنهم غالبا ما يجبرون على قبول وظائف في قطاعات غير نظامية تحت ظروف غير عادلة تنهك أرواحهم وأجسادهم المتعبة.
حياة أطول وأكثر صحة
يُعتبر عيش حياة أطول وأكثر صحة أحد أكثر الإنجازات المحتفى بها للتنمية البشرية، وهي شهادة على القدرة على تحسين وضع الإنسان من جيل إلى آخر. وقد برهنت بعض البلدان أنه يمكن للمجتمعات المسنة باستخدام مجموعة سياسات ملائمة وبوجود مؤسسات فعالة أن تخلق فرصا تستفيد منها شرائح المجتمع كافة. وينبغي أن تدرك هذه المجموعة من السياسات الترابطَ القائم بين التحولات الديموغرافية وفرص العمل والحماية الاجتماعية وهجرة اليد العاملة والتنمية الاقتصادية. ويُعتبر فتح باب الحوار الاجتماعي لمواجهة تحديات السياق الديموغرافي الجديد للمجتمعات المسنة أمرا مفصليا في العثور على حلول فعالة ومنصفة ومستدامة للتحديات الديموغرافية وتحويلها إلى فرص.
كما يشكل ضمان الحصول على معاشات تقاعدية كافية وخدمات صحية ورعاية طويلة الأجل الأساس لبناء مجتمعات شاملة تُشرك الأفراد وتعطيهم قدر حقهم بغض النظر عن أعمارهم. وإدراكا منها لأهمية أمن الدخل في سن الشيخوخة، وسّعت عدة بلدان ذات دخل منخفض ومتوسط تغطية التقاعد لتشمل شرائح سكانية لم تكن مشمولة في السابق بهدف تحقيق تغطية شاملة. وقد حدثت نتيجة لذلك زيادةٌ ملحوظة في نسب التغطية في عدة بلدان.
ومع ذلك، تقبع أنظمة التقاعد في بقاع كثيرة من العالم تحت ضغوط جراء التغيير الديموغرافي وسياسات التقشف. وقد أسفر ذلك في بعض البلدان عن حدوث وضع ستصبح فيه المعاشات التقاعدية المستقبلية عاجزة عن توفير حماية كافية لكبار السن. وسيبقى انعدام الأمن الاقتصادي والفقر في سن الشيخوخة أمرين واقعين لكثير من المسنين حاليا وفي المستقبل ما لم تُتخذ تدابير فعالة تضمن كفاية المعاشات التقاعدية.
ويذكر أنه في العام 2018 قام صندوق الأمم المتحدة للسكان مكتب الدول العربية بالشراكة مع جامعة الدول العربية بوضع استراتيجية عربية لكبار السن مدتها عشر سنوات (2019 – 2029) حيث تم تصديقها من قبل قمة الرؤساء العرب في 2019.
أعداد المسنين (فوق سن الـ65) في المنطقة العربية ستتجاوز أعداد الأطفال (تحت سن الـ15) بحلول عام 2050، ويعود ذلك لعدة أسباب منها تراجع معدلات الخصوبة والولادات وارتفاع متوسط الأعمار
وتهدف هذه الاستراتيجية إلى الانتقال من المقاربة الرعائية إلى المقاربة الحقوقية والتشاركية. وتتمثل الأهداف الإجرائية للاستراتيجية في تطوير أنظمة الرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي وملاءمتها لمتطلبات كبار السن الجديدة من الرجال والنساء وعائلاتهم وتعزيز فاعلية شبكات الأمان الاجتماعي المعتمدة في الدول العربية ودعم قدرتها على استهداف الفقراء من كبار السن في الوسطين الحضري والريفي.
وتهدف الاستراتيجية أيضا إلى تطوير المنظومة الصحية المعتمدة في الدول العربية لفائدة كبار السن وتحسين نوعية البرامج الصحية والوقائية والتدريب المستمرّ والتخصص في المجال الطبي وشبه الطبي والنفسي.
كما تسعى لدعم دور المجتمع المدني في النهوض بكبار السن ومساندة جهود الدول العربية في هذا الإطار والحرص على ملاءمة الآليات الرعائية المعتمدة في البلدان العربية لحاجات كبار السن وفق مقاربة النوع الاجتماعي، ودعم قدرتها على ضمان كرامتهم كمواطنين. وتهدف الاستراتيجية أيضا لتطوير الإطار التشريعي والقوانين المعتمدة لرعاية كبار السن في الدول العربية، استجابة للتغيرات التي تشهدها المجتمعات العربية ومواءمتها للاتفاقيات الدولية.
ومن جانب آخر، دعا أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة إلى اتخاذ سياسات واستراتيجيات وإجراءات أكثر شمولا لتحقيق العدالة الرقمية للأشخاص من جميع الأعمار.
وأحيت الأمم المتحدة اليوم الدولي للمسنين في الأول من أكتوبر، وكان موضوع الاحتفال هذا العام هو “المساواة الرقمية لجميع الأعمار”. وقال الأمين العام، في رسالة بالمناسبة، إن هذا الموضوع يفتح مناسبة مهمة لتوسيع الفرص المتاحة لكل الأجيال لما فيه مصلحة المجتمع ككل.
وأوضح أن العديد من الأنشطة مثل التواصل مع الأحباء وحضور الطقوس الدينية وغيرها باتت تُقام بشكل متزايد عبر الإنترنت، وخاصة في ظل معاناة الأفراد والمجتمعات مع القيود المفروضة لمنع انتشار جائحة كوفيد – 19، مشيرا إلى أن المسنين هم أكثر الفئات استفادة من هذه الخدمات. وقال إن كبار السن هم أكثر الفئات التي تعاني من العزلة أثناء الجائحة. كما أنهم أكثر عرضة للمعاناة من التهديد المتزايد للجرائم الإلكترونية.
ودعا إلى اتخاذ جميع التدابير الممكنة لمساءلة أولئك المجرمين عديمي الضمير الذين يعتدون على كبار السن، وفي الوقت نفسه تعزيز المهارات الرقمية لكبار السن كوسيلة مهمة للدفاع عن أنفسهم وكذلك لتحسين رفاههم.
وأضاف “كبار السن هم أكثر بكثير من مجرد فئة ضعيفة؛ إنهم يشكلون مصدرا للمعرفة والخبرة والمساهمات الغنية اللازمة لتقدمنا الجماعي، وعندما يتمكن كبار السن من الوصول إلى التكنولوجيا الجديدة وتعلمها واستخدامها، فسيكونون مجهزين بشكل أفضل للمساهمة في تحقيق أهـداف التنمية المستدامة، ودعوتنا العالمية للعمل من أجل القضاء على الفقر، وحماية الكوكب، وضمان تمتع كافة الناس بالصحة والسلام والازدهار، بحلول عام 2030”.

التحولات الديموغرافية العميقة تمتد آثارها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وحضاريا