الكل قديسون.. فمن خرّب ليبيا

وسط هذه التعقيدات يصعب أن يتمسك كل طرف بأنه الأكثر سعيا لاستقرار ليبيا. فهذا الخطاب لم يعد مناسبا وإذا كان الكل حريصا على ارتداء عباءة العلم والوطنية فمن تسبب في خراب ليبيا؟
الثلاثاء 2022/10/25
قادة الميليشيات المسلحة استفادوا من تدهور الأوضاع

عندما يستمع المواطن الليبي إلى حديث العديد من القيادات السياسية والقبلية والعسكرية، وحتى الميليشياوية، يجد أن كلا منهم حريص على حل الأزمة، ويبدو زهدا في تولي المناصب الرئيسية والفرعية، لكن عندما يشاهد ويسمع ويقرأ الأفعال يرتاب كثيرا في هؤلاء، فالكل يعمل لأجل ليبيا وينأى عن الإضرار بها.

يتمسك رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة بإجراء الانتخابات في أقرب فرصة، وهو الذي أفضت سياساته إلى تفويت الوقت على إتمامها قبل نهاية العام الماضي، ووضع الكثير من العراقيل في سبيل استمراره على رأس الحكومة في طرابلس، وتبنّى ممارسات أكدت أنه متشبث بالسلطة حتى آخر نفس ومتمسك أيضا بتقديم ما يشي بأنه أكثر الليبيين حرصا على تسوية أزمتهم.

ليس المقصود النيل منه أو تجريده من وطنيته، فالحديث هنا عن تصرفاته، وما فعله كرره آخرون بصور مختلفة أتت بحصيلة واحدة لا تصب في صالح ليبيا وشعبها.

◙ من كانوا جزءا في الأزمة من الداخل والخارج ومعهم الأمم المتحدة يتحدثون عن وضع حلول لها كأنهم أبرياء من دماء مئات الآلاف من الضحايا والمشردين واللاجئين

فالحوارات التي أجراها رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس مجلس الدولة خالد المشري في المغرب بشأن وضع قاعدة لاختيار المناصب العليا في البلاد أقدما عليها انطلاقا من حرصهما على مؤسسات الدولة، وهو توجه لا يختلف كثيرا عن سابقه، حيث أجريت في المكان نفسه والأجواء ذاتها حوارات مماثلة بلا طائل منها.

يتمسح عقيلة والمشري بالحكمة والرشد ويبدي كلاهما رغبة لحل الأزمة، مع أن الأول يسخّر البرلمان للحفاظ على مكاسبه وزيادتها إذا تمكن، والثاني يوظف الجسم الذي تم اختراعه لسحب البساط من تحت أقدام مجلس النواب لأهدافه وأغراض التيار الذي ينتمي إليه (جماعة الإخوان).

وفي النهاية يسوّق عقيلة والمشري تحركاتهما باعتبارها لأجل خاطر ليبيا وتجاوز أزمتها، وهي التي لم تعرف الهدوء والأمن والاستقرار منذ أن صعد أمثالهما على أكتاف ثورة فبراير، ومن دون تقديم ما يثبت حسن النوايا الكاملة.

خرج قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر قبل أيام مستثمرا في العجز العام ليحرض الناس على الانتفاضة ضد الطبقة السياسية، ومضى نحو أسبوع ولم تشهد شوارع ليبيا في الغرب أو الشرق أو الجنوب استجابة ولو طفيفة لصيحته، فقد حاول أن يمتطي جواده على أمل أن يربح بالثورة ما أخفق في تحقيقه بالسلاح.

ولا يختلف فتحي باشاغا رئيس الحكومة الموازية المعينة من جانب مجلس النواب عن هؤلاء القادة، حيث يتدثر بثوب الناسك والمخضرم والحالم بليبيا جديدة وهادئة وخالية من أوكار العصابات المسلحة وهو الذي وفّر غطاء شبه شرعي للكثير منها وقت أن كان وزيرا للداخلية في حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج.

◙ عبدالحميد الدبيبة يتمسك بإجراء الانتخابات في أقرب فرصة، وهو الذي أفضت سياساته إلى تفويت الوقت على إتمامها
عبدالحميد الدبيبة يتمسك بإجراء الانتخابات في أقرب فرصة، وهو الذي أفضت سياساته إلى تفويت الوقت على إتمامها

كما أن قادة الميليشيات المسلحة الذين استفادوا من تدهور الأوضاع وجنوا مكاسب كبيرة يتصورون أنهم أوصياء على أمن ليبيا ووجودهم على رأس فصائلهم حال دون احتلال طرابلس من قبل قوات أجنبية أو محلية، وقد تبنى كل قائد خطابا يتماشى مع الجهة التي ينحاز لها ويعمل لحسابها، وكأنهم قبضوا على قلب ليبيا.

يتشابه الوضع الخارجي مع الداخلي، فالكثير من القوى الإقليمية والدولية تعاملت مع الأزمة الليبية من منطلق الدفاع عن مصالحها، وهذا حقهم، لكن ليس من حقهم الإيحاء أن المشكلة تكمن في تعميق الخلافات الداخلية، والتي لعب المجتمع الدولي وتصرفات الكثير من القوى الفاعلة فيه دورا غامضا في تغذيتها كوسيلة لاستمرار نفوذهم.

كم مبادرة أطلقت في ليبيا، وكم مؤتمرا دوليا عقد لتسوية الأزمة، وكم اجتماعا جرى تدشينه ردا على اجتماع آخر عقد في دولة منافسة؟

أصبح من الصعوبة حصر المبادرات والمؤتمرات والاجتماعات، وفرز الحقيقي والمزيف، ناهيك عن استضافة قيادات محلية مرة بسبب تقريب المسافات بينها وأخرى لوضع أسس أجندة ربما يتم تطبيقها على الأرض، تبخر ذلك ولم يعد باقيا سوى ليبيا المنقسمة، والتي لا يزال يبحث شعبها عن فرصة تمكنه من إعادة اللُّحمة الوطنية.

تمر ليبيا بما مرت به الكثير من الدول في القارة الأفريقية، وبعضها نجا من مأزقه الشديد، والبعض الآخر يجتر جراحه وأحزانه على الرغم من مرور عشرات السنين على أزمته. ويقف الصومال شاهدا على حجم المأساة التي طالته ويضرب به المثل أحيانا للتدليل على أن ليبيا قد تواجه المصير ذاته.

المثير أن من كانوا جزءا في الأزمة من الداخل والخارج ومعهم الأمم المتحدة يتحدثون عن وضع حلول لها كأنهم أبرياء من دماء مئات الآلاف من الضحايا والمشردين واللاجئين، فكيف يتمكن هؤلاء من وضع روشتة علاج لمرض هم سبب فيه؟

ولذلك فتشخيص العلاج في هذه الحالة أهم من العلاج نفسه، والذي يمكن أن يأتي تلقائيا إذا رفع كل من عبثت يداه في ليبيا، جريا وراء مكاسب سياسية ومغريات مادية، فالهشاشة الظاهرة في الدولة كفيلة أن تجرها إلى وضع أشد ضراوة مما هي عليه، ما يرخي بظلال سلبية على كل من اعتقد أنه قبض على مفاتيح الأمر والنهي فيها.

◙ عقيلة والمشري يسوّقان تحركاتهما باعتبارها لأجل خاطر ليبيا وتجاوز أزمتها، وهي التي لم تعرف الهدوء والأمن والاستقرار منذ أن صعد أمثالهما على أكتاف ثورة فبراير

لم تعد ليبيا في أزمة هيكلية مثل غيرها من الأزمات المنتشرة في ربوع المنطقة، بها لاعبون مؤثرون، وتوازنات قوى معينة، وتحالفات محلية وإقليمية ودولية، وميليشيات وعصابات، وفرق مرتزقة تقف خلفهم جهات معروفة، ودولة ذات أهمية جيوسياسية بالغة، فقد جمعت كل ذلك وزادت أنها مجتمع تلعب فيه القبيلة دورا محوريا.

وسط هذه التعقيدات يصعب أن يتمسك كل طرف بأنه الأكثر سعيا لاستقرار ليبيا، لأن هذا الخطاب لم يعد مناسبا لأصحابه ويؤثر على مصالحهم بعد أن فُرّغ من محتواه، هناك لاعبون إيجابيون وسلبيون، وكل من يظهر أو يبطن شرا يتحمل مسؤولية الإضرار بليبيا وإن حاول الترويج لرؤى تصب في خانة التسوية السياسية.

تسعى أطراف عديدة للتوصل إلى تسوية على مقاسها، تقود إلى انتخابات تأتي بعناصرها ومن يتحالفون معها، وكما اشتملت المبادرات والمؤتمرات الدولية على صيغ حوتْ داخلها تقسيمات نوعية تتوافق مع طبيعة كل مرحلة يسير من يتحدثون بشغف عن تسوية الأزمة في الطريق الذي يعزز حضورهم في المستقبل.

يؤكد حديث الدبيبة عن الانتخابات أنها شرعية بعد أن يفوز بها، والعكس صحيح، وينطوي كلام حفتر عن انتفاضة ضد الطبقة السياسية على رغبة في أن يصبح القائد الملهم المنتظر، وهو ما ينطبق على تفاهمات عقيلة والمشري حول المناصب، فهي جيدة ومنتجة ومفيدة للتسوية طالما ضمت عددا كبيرا من حلفاء كليهما، وينسحب ذلك على باشاغا وتصوّراته الضخمة لدوره وكأنه يمسك عصا موسى. وإذا كان الكل حريصا على ارتداء عباءة العلم والوطنية والقداسة، فمن تسبب في خراب ليبيا؟

8