الكلام الساكت بين مصر والسعودية

مصر تتمسك بعدم معاداة إيران ولا تمانع في حوارات غير مباشرة معها تُجَنبُ كل طرف صداما يراه البعض غير مستبعد وفي أوج خلافات الرياض مع طهران حافظ كلا الطرفين على شعرة معاوية.
الاثنين 2021/12/20
نجاح العلاقات المصرية الخليجية يحتاج التخلي عن الحذر والحساسية

قرأ المراقبون الكثير من عبارات الإطراء المتبادل بين مصر والسعودية منذ الإعلان رسميا عن تدشين آلية التشاور السياسي قبل يومين من انعقاد القمة الخليجية بالرياض في الرابع عشر من ديسمبر الجاري، وفهموا أنها آلية لتعظيم المصالح بين الجانبين.

وقرأوا أو سمعوا مفردات مماثلة عند زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان إلى القاهرة الخميس الماضي، فقد تحدث ونظيره المصري سامح شكري عن عمق التقارب من دون تقديم توضيح للهوة التي تعتمل تحت السطح، وكأن آلية التشاور مهمتها توسيع أطر التفاهم الظاهر وليس الغوص في المكونات الخفية.

كل الدول تتفق وتختلف، وتتقارب وتتباعد، ولم يعد الاتفاق أو الخلاف شاملا، فقد يكون هناك توافق في ملف وخلاف في آخر وهيمنة سمات التفاعلات الدولية الجديدة، ونجاح القاهرة والرياض في تجاوز العديد من الملفات الخلافية لم يكن نتيجة تفاهم.

جاء التفاهم غالبا نتيجة استعداد مسبق لتفادي الصدام ورغبة استراتيجية في الحفاظ على حد أدنى من التعاون والتنسيق، لأن التنافر الحاد سوف يخل بصيغة توازن دقيقة ارتضاها الطرفان على مدار سنوات طويلة.

ينطوي تدشين آلية للتشاور عن معنى يجره المزيد من المكاشفة كي تكون منتجة وتحقق أهدافها، أما إذا كانت وسيلة دبلوماسية عادية مهمتها الحد من الخلافات وتجنب الصدام فثمة أدوات عدة يمكن أن تقوم بذلك، فالقيادة السياسية في كل بلد تعلم أن التوافق ولو نسبيا له أهمية حيوية يصعب التفريط فيها.

بكلام آخر، توجد جملة من التعقيدات تتفاعل في العلاقات بين مصر والسعودية سرا، ولا أحد يريد أن يناقشها بصراحة، ربما تكون هناك مناقشات تجري في الغرف المغلقة أو تلامسها بصورة دبلوماسية، لكن في الحالتين لن تكفي لإزالة الشوائب التي تظل تمثل منغصا مركزيا ولا أحد يتحدث عنه أو يناقشه بشفافية.

من هذه القضايا التباين في القيادة السياسية على المستوى العربي والإقليمي، فلدى كل من مصر والسعودية مقومات تؤهلها للقيام بهذا الدور بينها الثقل التاريخي والحضاري والسكاني والعسكري لمصر ويواجهها الثقل الإسلامي والاقتصادي والطموح للسعودية ما جعل هناك حساسية أو خوفا من مقارنة بين من يقود من؟ ربما لا تناقش هذه الإشكالية، لكن تظل من معوقات وصول التفاهم إلى مستوى مرتفع.

تكمن الأزمة مع إيران في أنها لا تقتصر على الموقف من العلاقة معها فقط، فهي تتشابك في قضايا عربية مختلفة، ما يجعل عدم التفاهم بين مصر والسعودية بشأنها وعدم الحديث عنها بوضوح شوكة في ظهر البلدين

يجيب استحداث آلية التشاور السياسي ضمنيا عن السؤال اللغز (من يقود من؟) ويعزز الاحتفاء بها من الجانبين العثور على الحل، ففكرة التشاور نفسها توحي بالندية أو المساواة، وغالبا ما يكون ذلك بين طرفين تجمعهما توازنات متقاربة أو شبه متقاربة، تختفي فيها معادلات، الكبير والصغير، والقوي والضعيف، والقائد والتابع.

قد تمثل هذه الصيغة حلا نظريا أو دبلوماسيا، غير أنها لا تكفي لحل العقدة عمليا، ولا تكفي الثقة المتراكمة لإزالة منغصاتها في بعض المحكات الحيوية، وتقتصر على الأصعدة التي يجد الطرفان مصلحة كبيرة في التشاور فيها والتفاهم حولها.

لا يُحسم هذا النوع من القضايا بقرارات فوقية، فثمة عوامل تلعب دورا في منح القيادة لدولة وحرمان أخرى منها، ولا يكفي التاريخ والموقع الجغرافي والمساحة والقوة العسكرية والاقتصادية والاجتماعية لتكون محددات وحيدة، فالإرادة والرغبة والرؤية والطموح والعافية السياسية والقدرة على التعاطي مع القضايا الإقليمية والاشتباك معها بجسارة تفوق العوامل التقليدية السابقة.

تأتي معضلة إيران كأحد العناصر المهمة المسكوت عنها في العلاقات بين مصر والسعودية، فكل دولة تدير علاقتها بطريقة مختلفة، وإذا كانت الرياض مالت كثيرا نحو الصدام السياسي، فالقاهرة لم تجد في ذلك دوافع كافية، مع ذلك تراعي حسابات السعودية والخليج عموما وتحافظ على علاقة باردة مع طهران ولا ترى فائدة من الصدام معها، ولم تخل مصر بثوابت رفض تدخلات إيران في بعض الدول العربية.

تتمسك مصر بعدم معاداة إيران ولا تمانع في حوارات غير مباشرة معها تجنب كل طرف صداما يراه البعض غير مستبعد وفي أوج خلافات الرياض مع طهران حافظت الأخيرة والقاهرة على عدم قطع شعرة معاوية، كلما شدها طرف أرخاها الطرف الثاني، والتي امتدت إلى حزب الله حيث تغض مصر الطرف عن إدانة تصرفاته في الداخل اللبناني، بما يسير في اتجاه عكس الرؤية السعودية.

تعزز حوارات السعودية مع إيران التي جرى الكشف عن بعض ملامحها مؤخرا صواب رؤية مصر في سلوكها للاحتفاظ بورقة إيران، إذ يمكن توظيفها في حالة التباين مع السعودية أو الانسجام، لأن بحر السياسة متحرك وقد يجبر كل طرف على تحجيم عداءاته، فلا أحد تخيل أن تتم المصالحة مع قطر أو يحدث التقارب مع تركيا.

وفرت الخبرة المصرية والتجارب السياسية المريرة عدم التفريط في خطوط الرجعة عند الخصومة ودعمت سيولة الصراعات والنزاعات الإقليمية هذا المستوى من التفكير، فالاحتفاظ بخطوط متوازية في العلاقات بين الدول يقلل من خسائر أصحابها.

فما هي النتيجة المتوقعة لو انساقت مصر وراء الرغبة السعودية في جرها لعداء مع إيران قبل سنوات، ثم دخلت الرياض في حوارات مع طهران؟ فالولايات المتحدة التي تلعن إيران ليلا ونهارا دخلت معها في محادثات لحل بعض الملفات الخلافية، لذلك باتت القاهرة على قناعة بتسوية المشكلات سلميا والتمسك بالحلول الدبلوماسية.

تؤدي قناعة السعودية بتصفير المشكلات الإقليمية إلى المزيد من التقارب مع المنهج المصري، وتوفر هذه القناعة بيئة جيدة لنجاح آلية التشاور التي من الصعب أن تنجح وكل طرف يدير علاقاته بطريقة تتناسب مع تقديراته فقط، بالتالي من الضروري أن تنشط الآلية في وضع النقاط على الحروف بين القاهرة والرياض بالنسبة إلى طهران.

تكمن الأزمة مع إيران في أنها لا تقتصر على الموقف من العلاقة معها فقط، فهي تتشابك في قضايا عربية مختلفة، مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن، ما يجعل عدم التفاهم بين مصر والسعودية بشأنها وعدم الحديث عنها بوضوح شوكة في ظهر البلدين، فملف اليمن الذي يمثل أهمية فائقة للرياض مختلف حوله مع القاهرة التي لم تستجب للدعوة السعودية للانخراط في حربها بصورة مباشرة.

يحتاج نجاح العلاقات المصرية الخليجية عموما التخلي عن الحذر والحساسية، وترك سياسة النعامة، أي دفن الرؤوس في الرمال، فسوف تأتي اللحظة التي تحدث فيها مكاشفة، والكلام الساكت، كما يقول أهل السودان، بين مصر والسعودية يكاد يصم الآذان، وما لم تتطرق آلية التشاور السياسي إلى أدق تفاصيل الخلافات لن تمثل إضافة لتدعيم التحالف بين الجانبين.

9