الكاتب الخفي

ظاهرة الكاتب الخفي عرفتها دول مختلفة عندما يكون هناك مسؤول سياسي أو رياضي أو فنان أو غيره ممن يريدون تدوين مذكراتهم ووضعها بين دفتي كتاب.
الخميس 2024/06/06
مزاج القارئ تغير كثيرا

شاع وسط الجماعة الصحافية في مصر منذ سنوات أن رئيس تحرير إحدى الصحف الكبرى كان يستعين بمن يكتب له مقالاته، إلى الدرجة التي قيل وقتها إن كتّابه أكثر من قرائه، كدليل على كثرة من يتناوبون على الكتابة له في مجالات متنوعة، وهي سخرية المقصود بها التقليل من أهمية ما كان ينشر ومعه توقيعه الرسمي.

كان من يوصف بـ”الكاتب الخفي”، أو الكتّاب من الباطن في حالة كثرتهم، محظوظا ماديا، لأنه ضمن أن يصبح قريبا من وجدان رئيس التحرير، وبالتالي الحصول على مزايا وعطايا مختلفة، على شكل منح مالية وبدل سفريات خارجية ومناصب إدارية، وكل ما يمكن أن يجعله مرتاحا في العمل والكتابة بروح معنوية عالية.

أدى وجود أكثر من كاتب إلى تعدد التخصصات وتباين في الأساليب، فهناك من يجيد الكتابة في الاقتصاد ومن يجيد فن الكتابة في السياسة، وهناك صاحب العبارات الرنانة الملتوية ومن يكتب مباشرة بغرض الوصول إلى عقل القارئ، ومن يتقن الجمل القصيرة ومن يرهقك بجمله الطويلة، وأدت ألوان الطيف الصحافية إلى عدم وجود هوية واضحة لمقالات رئيس التحرير، وكان معروفا عنه الهدوء والدقة في اختيار معاونيه.

طويت هذه الصفحة برحيله عن منصبه، لكن الفكرة لم ترحل، وتحولت إلى عادة لدى بعض رؤساء التحرير حاليا، ولم تعد محل استنكار أو سخرية أو استهجان من أحد، وربما منهم من يفتخر بالاستعانة بمن يكتب له مقالاته سرا، بحجة انشغاله بمهام أخرى جسيمة، وليس عدم قدرته على الكتابة التي يمكن أن تفيد قارئا من المفترض أن كل الصحافيين الحقيقيين يعملون عنده ويكتبون من أجله.

المشكلة أن مزاج القارئ تغير كثيرا، ويحتاج إلى من يقدم له معلومة مفيدة أو تحليلا عميقا، ولن يجذبه الرطان الذي يكتبه ظل رئيس التحرير بعد أن تحولت الكتابة لدى البعض إلى نوع من الولاء والطاعة أو “الطبيخ البايت” كما يوصف في مصر كعلامة على أنه غير طازج، حيث يفقد جزءا كبيرا من الشغف عند تناوله.

حل الذكاء الاصطناعي مشكلة ظل رئيس التحرير، إذ يستطيع كل منهم أن يستعين بـ”شات جي.بي.تي”، ويكفي أن يقوم بتحديد الفكرة والضغط على زر فيجد أمامه موضوعا يستوفي كل المعايير الشكلية في فن كتابة المقال مثلا، لكنه بلا طعم أو رائحة أو نكهة، الأمر الذي يشبه ما ينشره البعض في هذه الأيام.

أعتقد أن ظاهرة الكاتب الخفي عرفتها دول مختلفة عندما يكون هناك مسؤول سياسي أو رياضي أو فنان أو غيره ممن يريدون تدوين مذكراتهم ووضعها بين دفتي كتاب، لكن أشك في وجود دول كثيرة عرفت صحافيا في موقع رئيس تحرير يكتب له آخرون، لأن ذلك يشبه الراقصة التي ترقص من دون أن تجيد فن الرقص.

لا تعني قسوة التشبيه السابق التعميم، فقد يحتاج رئيس التحرير إلى توصيل فكرة معينة في مجال بعيد عن اهتمامه فيلجأ إلى كاتب خفي، لكن أن تصبح قاعدة ولا يفكر مرة في الكتابة بنفسه، فهذا استسهال يدل على عدم أهليته الصحافية، ومن ثم عدم قدرته على توصيل صوت صحيفته إلى القارئ.  

18