القيود الثقافية أقوى أنواع القيود التي تكبل المرأة المصرية

المشاركة السياسية للنساء رهين إحداث تغيير حقيقي في السياقات المجتمعية المختلفة.
الأحد 2022/01/16
محاولات لكسر الهيمنة الذكورية

تظل قضية المشاركة السياسية للمرأة في مصر وتقييم الفرص المتاحة لها للنفاذ إلى كافة مواقع صنع القرار، سواء على مستوى مؤسسات الدولة أو منظمات المجتمع المدني، من القضايا التي تحتاج إلى مقاربة مختلفة وغير تقليدية في التعامل معها. أي مقاربة قادرة على نسج العلاقات بين الجوانب والأبعاد التنموية والحقوقية والسياسية، تتحرك بقضية التمكين السياسي للنساء من مجرد النضال في سبيل تخصيص بعض المقاعد لهن إلى تحقيقهن لمشاركة سياسية ذات نوعية متميزة.

القاهرة – بحث كتاب “المشاركة السياسية للمرأة” معوقات هذه المشاركة وتحدياتها، سواء منها القادمة من أعلى (قانونية أو سياسية أو مؤسسية) أو التحديات المرتبطة بأوضاع النساء الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

وأكد الكتاب -الذي أعدته وحررته وقدمت له وشاركت فيه الباحثة د. هويدا عدلي مع الباحثات والباحثين منى عزت وأحمد فوزي ود. ريهام باهي ود. مروة نظير- أنه على الرغم من الإقرار بوجود عوائق بفعل النظم السياسية وأخرى من إنتاج المجتمع يشير التحليل الواقعي إلى تداخل العوائق سواء القادمة من أعلى أو من أسفل، فمن الصعب مثلا عزل أوضاع النساء الاقتصادية والاجتماعية عن سياسات الدولة، وعلى نفس المنوال من الصعب افتراض أن الثقافة بقيودها تمثل نسقا مجتمعيا مغلقا، فهي في تفاعل مستمر مع سياسات الدولة من ناحية والحراك المجتمعي من ناحية أخرى.

فجوة عميقة

هويدا عدلي: الثقافة تحدد أدوار الذكورة والأنوثة على نحو صارم، ومن ثم فإنها تضع إطارا يتحرك فيه كل من الرجل والمرأة

تشير د. هويدا عدلي في بلورتها لأهم النتائج التي توصلت إليها الدراسات الخمس التي ضمها الكتاب إلى أن هناك فجوة نوعية واضحة وكبيرة ليست في صالح النساء في كافة مؤسسات الدولة المصرية باستثناء حالات قليلة. ولا يختلف الوضع كثيرا داخل منظمات المجتمع المدني، مما يقتضي رؤية شاملة لكيفية تجنيد القيادات النسائية في هذه المواقع وتأهيلهن للمواقع القيادية فيها وتسهيل بيئة صديقة لذلك. كما يحتاج الأمر إلى مراجعة كافة القوانين واللوائح المعوقة لنفاذ النساء إلى هذه المواقع.

ورغم أن دستور 2014 يوفر عبر مواده العديد من الفرص التي تحقق نقلة نوعية وكمية في تحقيق المساواة بين الجنسين وتحد من الفجوة النوعية القائمة، إلا أن تفعيل هذه المواد يتطلب رؤية شاملة، لا تقتصر على سن القوانين أو تعديل ما هو قائم منها كي يتوافق مع الدستور، وإنما تشمل أيضا سياسات اجتماعية واقتصادية وثقافية تؤدي إلى إحداث تغيير حقيقي في السياقات المجتمعية المختلفة، التي تغذي التمييز على أساس النوع الاجتماعي.

وترى أن إجراء تخصيص مقاعد للنساء في البرلمانات الوطنية والمحلية يظل أمرا ضروريا، فغالبية دول العالم تتبنى هذا الإجراء في الوقت الراهن، وبالفعل فقد حقق نتائج جيدة في تمثيل النساء. أما بالنسبة إلى الحالة المصرية فقد ارتبطت أعلى المعدلات المتعلقة بمشاركة المرأة في البرلمان بتخصيص كوتا للنساء خلال مجالس 1979 – 1984 – 2010 – 2015.

وباستثناء هذه المجالس كانت نسب تمثيل المرأة في البرلمان محدودة للغاية، حيث تراوحت ما بين 0.57 بالمئة في حدها الأدنى و3.9 بالمئة في حدها الأقصى. ومع ذلك فإن القضية الأساسية ليست قضية الكم وإنما السعي لمشاركة سياسية ذات نوعية متميزة، وهو ما يحتاج إلى توافر عدة شروط تتعلق بالبيئة السياسية الملائمة التي تُجرى فيها الانتخابات وسير العملية الانتخابية ونزاهتها، وكذلك دعم ومساندة النائبات أثناء الدورة البرلمانية. كل ما سبق شروط مهمة تعظّم فائدة التخصيص وتؤدي إلى تطور ليس فقط كميّا وإنما هو نوعي في المشاركة السياسية للنساء. والحقيقة أن دور المنظمات النسوية وبالأخص الحقوقية والدفاعية له أهميته في هذا الأمر من خلال تحسين أداء الكوادر النسائية المنتخبة ببناء قدراتهن، وأيضا مساعدتهن على إعداد أجندة لمشروعات القوانين والسياسات المطلوبة وإمدادهن بالمشورة والمعلومات.

وتلفت عدلي إلى أن القيود الثقافية في مصر من أقوى أنواع القيود نتيجة استمرار هيمنة الطابع الذكوري الأبوي على الثقافة السياسية رغم حدوث الكثير من التحولات الإيجابية في السنوات الأخيرة، ولكنها مازالت إرهاصات وبدايات ولم تتحول إلى تيار رئيسيّ. وبالطبع لا يمكن دراسة موقف الثقافة العامة من النساء دون فهم علاقة ذلك بالبنى السياسية المختلفة.

وتوجد الكثير من القيود التي ترجع في جوهرها إلى طبيعة الثقافة المجتمعية المتوارثة عبر الأجيال، والتي تتحدد عبر عدد من العوامل، أبرزها: الخطاب الديني والثقافة الذكورية الأبوية المسيطرة على المجتمع المصري بصفة عامة، ما يترك أثره على تصورات المصريين والمصريات بشأن وجود وحرية حركة المرأة في المجال العام.

☚ الدراسات الخمس التي ضمها الكتاب توصلت إلى أن هناك فجوة نوعية واضحة ليست في صالح النساء في كافة المؤسسات

وفي ظل تلك العوامل تجد المرأة المصرية نفسها أسيرة ثقافة جامدة، تنظر إليها على أنها موضوع أكثر من كونها ذاتًا إنسانية فاعلة، وتضع على جسدها وعلى حركتها قيودا تجعل تفاعلاتها مقيدة، وتعرّضها لأشكال من القسوة والعنف والإهمال بحيث تحل المرأة ثانيا في معظم الأحيان.

وتضيف عدلي “تنتشر هذه الثقافة وتتجذر في المجتمع بشكل عام، وفي المجتمعات الريفية والمجتمعات الحضرية المكتظة بالمهاجرين من الريف خاصة. وتجد هذه الثقافة من يدافع عنها وينتصر لها، حتى من جانب المرأة ذاتها. فلقد نجحت هذه الثقافة الذكورية في تحويل المرأة نفسها إلى مدافع عنها. إن الثقافة تحدد أدوار الذكورة والأنوثة على نحو صارم، ومن ثم فإنها تضع إطارا يتحرك فيه كل من الرجل والمرأة، ويكون الخروج عليه ضربا من الانحراف أو العيب. ورغم دخول الحداثة بتجلياتها المختلفة، إلا أن الأطر الثقافية لا تزال تحدد الأدوار الخاصة بالذكور والإناث وتعمق صور التمييز بينهما، بحيث نجد أن أفكارا مثل تلك التي تنادي باستقلال المرأة أو مساواتها بالرجل لا تزال بعيدة المنال. فقد تشارك المرأة في الحياة العامة، ولكن لا يمنحها ذلك استقلالا ومساواة مع الرجل. وأكثر من هذا، يفرز المجتمع أنماطا من الخطاب المعادي لفكرة مشاركة المرأة، وهو خطاب ينتشر ويجد له أنصارا في كل مكان، ويقترب بالتدريج من دوائر التأثير السياسي”.

وتؤكد عدلي على أنه لا توجد مراعاة للبعد الجندري بشكل واع في غالبية جوانب ممارسة الدولة لدورها كمنظم للشأن العام، فمثلا الرؤية العامة لمفهوم الأمان والسلامة الموجودين بالدستور والقوانين المَطبقة في الواقع لا تشير إلى ديناميكيات العنف في الشوارع، وإمكانية أن تكون مجرد وقائع العنف المتكررة التي تحدث في شارع أو حي ما ضد النساء كافية لتجعل هذا الحي “غير آمن” حتى وإن كان آمنا من الناحية الصحية وشروط المأوى والبناء، فهو يظل غير آمن بالنسبة إلى ما يزيد أو يقل عن نصف سكانه.

وتتابع أنه على الرغم مما تعانيه المرأة المصرية في الوقت الراهن من مصاعب ومشكلات تُعزى بشكل أساسي إلى المحددات الثقافية، يمكن القول بأن هناك حالة من الحلحلة طرأت في ما يخص الموروث الثقافي والاجتماعي المؤطر لوجود وحركة المرأة المصرية في المجال العام، وهو ما يمكن تفسيره بشكل ما في ضوء التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري منذ ثورة 2011 وما تلاها من أحداث. ولعله من الممكن تلمس عدد من المظاهر التي تعكس تلك الحالة، منها: تعزيز حضور النساء المصريات في العمل العام والتحول في الوعي الجمعي بخصوص العنف الجنسي في المجال العام، وكذلك الاختراق الذي حققته الحركة النسوية في ما يخص بروز العنف الجنسي الممنهج ضد النساء منذ 2011، حيث تمكنت تلك القوى من تحقيق نجاحات ملحوظة؛ فعلى مستوى الخطاب والتأثير السياسي طورت تلك الحركة وعيا نسويا سائلا لا يزال قيد التشكيل، وذلك عن طريق استخدام العنف الجنسي كمدخل للوعي النسوي لمئات بل آلاف الفتيات والرجال أيضا. وبالتالي شكلت مع مرور الوقت حركة قوامها المئات بل الآلاف من المتطوعين والمناصرين الذين انخرطوا في تلك الحركات ولعبوا أدوارا مختلفة فيها. وقدمت هذه المجموعات تثويرا حقيقيا لقضايا النساء.

وتشدد عدلي على أنه للتغلب على القيود التي تفرضها الأبعاد الثقافية على مشاركة المرأة المصرية وحضورها في المجال العام لا مناص من العمل مع المزيد من القطاعات التي تشمل النساء في الريف وفي المجتمعات المهمشة، والتعامل بقوة وجسارة مع مشكلات الفقر والعنف والتمييز والممارسات الثقافية الجائرة، وتطوير آليات عمل مبدعة، وتشجيع المبادرات المحلية في المشروعات الصغيرة والإبداعات الثقافية للمرأة. فهناك حاجة ملحة إلى أن يأتي التغيير من أسفل، وأن يكون العمل الثقافي والاجتماعي النابع من القاعدة هو القوة الحقيقية الدافعة إلى التغيير المنشود.

 التنظيم والبناء

أسيرات ثقافة جامدة
أسيرات ثقافة جامدة

ترى عدلي أن نحت مقاربة جديدة لدعم المشاركة السياسية للنساء يحتاج إلى مدخل متعدد المستويات، يربط بين الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي من ناحية، ويفهم جيدا جدلية العلاقات بين المجال العام والمجال الخاص وتأثير ذلك على النساء من ناحية أخرى، ويقرر البحث عن طريق معاكس للمشاركة السياسية، لا يبدأ كما جرت العادة من المستويات الوطنية ولكن ينطلق من السياسات المحلية. فعلى الرغم من أن السياسات المحلية هي سياسات صديقة للمرأة إلا أن معدلات المشاركة على المستويات المحلية سواء في المواقع التنفيذية أو المنتخبة مازالت أقل من مثيلاتها على المستويات الوطنية وعلى الصعيد العالمي بجنوبه وشماله. وبالنسبة إلى مصر قد يكون الأمر أكثر صعوبة بسبب ضعف التجربة التاريخية للمشاركة النسائية في المجالس الشعبية المحلية في مصر قبل 2011، حيث لم تتجاوز نسبة التمثيل حاجز الـ5 بالمئة مما يعني غياب الكوادر النسائية المؤهلة لشغل 25 بالمئة من المقاعد في الانتخابات المحلية القادمة، وأيضا بسبب ضعف وتقليدية تنظيمات المجتمع المدني في المجتمعات المحلية خاصة الريفية وغياب الدور الفاعل للنساء فيها.

وتوضح عدلي أن دعم مشاركة النساء في السياسات المحلية يقتضي نوعين من التدخلات؛ الأول على مستوى السياسات المحلية الرسمية، والثاني على مستوى السياسات المحلية غير الرسمية. ومما لا شك فيه أن كلا النوعين من التدخلات لا ينفصلان عن بعضهما البعض، فكلاهما هدفه تكوين كوادر نسائية محلية، قادرة على المشاركة السياسية والمدنية سواء في المجالس المحلية الرسمية أو في تنظيمات المجتمع المدني المحلية. وبالنسبة إلى التدخلات الخاصة بالسياسات المحلية الرسمية من الضروري إعداد كوادر نسائية نشطة ولديها رؤية لخوض الانتخابات المحلية القادمة مع تجنب تكرار أخطاء تجربة الكوتا في الانتخابات البرلمانية 2015 – 2016. ويبدو من الضروري طوال الوقت التذكير بأن نظام الكوتا، أو تخصيص مقاعد لبعض الفئات الاجتماعية في المجالس المنتخبة، ليس هدفا في حد ذاته وإنما هو وسيلة لتمكين هذه الفئة من طرح قضاياها ومشاكلها والعمل على حلها، خاصة وأن أصل مفهوم الكوتا لا يقتصر على المجالس المنتخبة؛ فالكوتا مفهوم أكثر اتساعا، يمتد إلى كافة مجالات الحياة. فإذا كانت فئة ما تعاني من التهميش الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، فيجب اتخاذ عدد من إجراءات التمييز الإيجابي من أجل تمكينها في كافة المجالات، وذلك لمدة محددة حتى يتحقق الهدف من التمييز الإيجابي، وهو قدرة هذه الفئة على الدخول في حلبة المنافسة مع كافة فئات المجتمع الأخرى على أساس الجدارة والكفاءة.

أما في ما يتعلق بالتدخلات على مستوى السياسات المحلية غير الرسمية/المدنية، فإنه لا بد من بناء قدرات مجموعات واسعة من النساء في المجتمعات المحلية لتنظيم أنفسهن والدفاع عن مصالحهن ومصالح أسرهن ومجتمعاتهن سواء عبر الاستفادة من تجارب أخرى مثل مراكز الأمهات في أوروبا الشرقية، والتي تمت الإشارة إليها في الكتاب، أو من خلال الروابط المحلية والجماعات المساندة. إن النجاح في هذا سيوفر قاعدة كبيرة من الكوادر النسائية النشطة التي يمكن أن تنتقل بعد فترة إلى ساحة العمل المحلي السياسي بشكل مباشر.

يذكر أن الكتاب يضم دليلا يمثل مشروع المشاركة السياسية للمرأة، حيث يسعى لتحويل ما ورد من رؤى وأفكار وما تم التوصل إليه من دروس واستخلاصات في فصول الكتاب إلى مادة تدريبية تعليمية، تساعد المدربين المهتمين بموضوع المشاركة السياسية للنساء على طرح مقاربات مختلفة ومتنوعة. والحقيقة أن هذا الدليل معنيّ أكثر بتقديم رؤية متكاملة في خمسة أقسام عن القضية محل الاهتمام، توفر قدرا كبيرا ووفيرا من المعارف والمعلومات التي يربطها نسق فكري واضح ومتكامل.

Thumbnail
17