القوة العسكرية المصرية لخفض التوترات الإقليمية

القاهرة قرأت الخارطة المرتبكة في المنطقة ووجدت أمامها طريقين لا ثالث لهما، فإما أن تستخدم فائض القوة العسكرية لديها لتكريس نفوذها ودورها، وإما أن تستثمر ذلك كأداة للردع وتغليب الحلول السياسية.
الجمعة 2021/06/04
مصر أفلتت من محاولات متباينة لإنهاكها

ليس هناك خطأ في العنوان ولا يحمل تلاعبا بالكلمات، فهو يتسق مع مضمون مقال يرمي للحديث عن واحدة من الزوايا المهمة في تفسير العلاقة بين مضاعفة القوة العسكرية وامتلاك أحدث معداتها والحصول على تصنيف متقدم للجيش المصري، وبين الانخراط في تسويات سياسية حثيثة في المنطقة.

لم يكن لمصر أن تقبل بالحديث عن تصفية الخلافات مع تركيا وهي في موقف ضعيف عسكريا، لأنها ستدخلها مكبّلة والكفة لن تميل لصالحها، وقد قبلت بالحوار من موقف قوة مركبة، ولم يكن لها لتنخرط في مصالحة مع قطر وهي منهكة أمنيا وتواجه أشباحا من التنظيمات المتطرفة في سيناء أو غيرها.

كذلك من الصعب أن تحدّد خطا أحمر في ليبيا دون أن تمتلك قدرات تسليحية تمكنها من السيطرة على الميدان لمواجهة خصومها إذا اقتضت الضرورة، وفُهم أن دعم حل الأزمة سياسيا يتسق مع الخطاب المصري الذي لم ينحرف والأزمة الليبية في أحلك الأيام قتامة حيث انتشار الميليشيات والمرتزقة ودخول القوات التركية على الخط.

من الصعب أيضا إعادة رسم الخط الأحمر مع إثيوبيا دون امتلاك الجاهزية الكاملة التي تساعد مصر في الحفاظ على حصتها المعلنة من مياه النيل، وإجراء مناورات عسكرية متعددة مع السودان من “نسور النيل” إلى “حماة النيل”، وتوقيع اتفاقيات تعاون أمني مع غالبية الدول الأفريقية المحيطة بإثيوبيا، لذلك فالإصرار على التفاوض والتوصل إلى حل رضائي لم يُفهم على أنه تعبير عن ضعف.

من يتابع التحركات الإقليمية المصرية يجدها تدور في فلك التأكيد على التسويات السياسية في التعامل مع جميع النزاعات والتوترات التي ترتبط بالأمن القومي المصري والعربي، أو حتى أمن واستقرار المنطقة والعالم. ولجأت القاهرة إلى التشديد على ذلك من حسابات قوة، فقد استكملت بناء آلتها العسكرية بصورة متقدمة، وعقب نجاحها في كسر احتكار تسليح جيشها وعدم قصره على جهة واحدة.

عندما تدخلت القاهرة في نزع فتيل حرب غزة الأخيرة تلاشت التقديرات السلبية التي كانت تتحدث عن مخاوفها من اشتعال الصراع وهواجس امتداد شرارته إليها فتجد نفسها متورطة فيه وغير مستعدة عسكريا، وجرى الكلام عن وساطة غرضها وقف الحرب وتخفيف الضغوط على كاهل المواطنين في قطاع غزة والأراضي المحتلة وتصويب مسارات القضية الفلسطينية ما يصب في صالح الأمن والاستقرار الإقليميين.

قرأت القاهرة الخارطة المرتبكة في المنطقة ووجدت أمامها طريقين لا ثالث لهما، فإما أن تستخدم فائض القوة العسكرية لديها لتكريس نفوذها ودورها، وإما أن تستثمر ذلك كأداة للردع وتغليب الحلول السياسية.

وجدت أن الطريق الأول لا يستقيم مع شخصيتها التاريخية غير العدوانية بالمرة، والتي يواصل النظام المصري الحالي التمسك بها وتشبيك حلقاتها والعمل على تثبيتها في جميع المحكات والاختبارات والتحديات التي يمر بها.

كما أن تجربة تركيا مثلا والتي قادتها للتدخل في بؤر مختلفة للصراعات لم تسفر عن تمرير أهدافها، ربما مرّرت جانبا منها، لكنها قد تخلف وراءها مرارات مع شعوب، سوريا والعراق وليبيا وأرمينيا واليونان، يمكن أن تلاحقها لعقود طويلة وتدفع الأجيال القادمة ثمنا باهظا، فالحروب ونتائجها لا تسقط بالتقادم، ولا تزال بعض الدول الاستعمارية تُطالب باعتذارات عن حقب سابقة وتلاحق بدفع تعويضات للشعوب التي استعمرتها، وثمة من تطوق أعناقهم بعض الأحداث المؤلمة حتى الآن.

Thumbnail

لفظت مصر الطريق الأول وابتعدت عن الدفاع عن مصالحها بالحرب وحاولت تجنّبها إلى أقصى مدى، لأنها لا تستقيم مع الرغبة الحالية لقيادتها في بناء دولة حديثة طامحة ومستقرة، فأي اشتباك عسكري يمكن أن يستمر وقتا ويستنزف ثرواتها ويؤدي إلى تداعيات وخيمة ويعيد الدولة إلى المعارك وأجوائها التي أحاطت بها لنحو أربعة عقود.

لم يمنع اختيار طريق السلام مع إسرائيل قبل نحو 42 عاما والقبول به وفقا لحسابات استراتيجية مختلفة الجيش المصري من تطوير قدراته وجلب أنواع متقدمة من الأسلحة التكتيكية والطائرات والصواريخ والفرقاطات البحرية، تمهيدا لمهمة تعتزم القاهرة القيام بها لمنع الاعتداء على مصالحها وليس بغرض دخول معارك مع أحد.

أفلتت مصر من محاولات متباينة لإنهاكها اقتصاديا وتشتيت انتباهها أمنيا في الحرب التي خاضتها ضد تنظيمات إرهابية، وتخطت عملية جرّها للتدخل العسكري مباشرة في الأزمة الليبية، ولا تزال تتمسك بالتفاهم الودي مع إثيوبيا، انطلاقا من قناعة بأن قوتها لن تنخرط في حروب ما لم تكن هناك ضرورة لها.

تعلم مصر أن استرجاع دورها الإقليمي لن يكون منتجا من الناحية السياسية ما لم يصطحب معه قوة عسكرية موازية توفر له غطاء، وحرصها على تسوية الأزمات لن يأتي بالرغبة والإرادة فقط، بل لا بد من قوة عسكرية جبارة تحمي الرغبة وتحافظ على الإرادة، وبالتالي تحقق الغرض النهائي من التسويات، وهو تأمين المصالح المصرية التي تجد في الأمن والاستقرار مدخلا مواتيا للنمو والتأثير.

تكاد المنطقة تكون فارغة من النموذج الذي يجمع بين القوة العسكرية والرغبة في تحقيق السلام وعدم الهيمنة، فإيران في مواجهة محتدمة مع دول عدة لأنها شرهة للتمدد والسيطرة وتصدير مزاعمها حول الثورة.

وتركيا تسير على الدرب ذاته تقريبا ويواجه مشروعها عقبات وأخفقت في تثبيت مفاصله واتجهت للتراجع عن الكثير من ملامحه، ولا تزال إسرائيل تحافظ على صورتها الناصعة كدولة احتلال لا يمكنها التحرك لإخماد صراعات أو نزاعات، ولم تبرح مكانها، فهي في مقدمة الأسباب التي تتغذى عليها التوترات في المنطقة.

فقدت مصر جزءا من قوتها الإقليمية المساندة بعد خروج العراق من المعادلة العربية، وزادت المعاناة مع اندلاع حرب طويلة في سوريا وليبيا وإنهاكهما استراتيجيا، ولم يتبق لمصر سوى الاعتماد على تعزيز قوتها العسكرية خوفا من أن تواجه مصيرا شبيها بما حدث في أي من الدول التي مثلت ركيزة في الأمن القومي العربي.

تتعمّد الدولة المصرية توظيف القوة الجديدة في تعزيز فرص السلام وإطفاء الحروب وإخماد بؤر الصراعات، وتخلق في النهاية لنفسها دورا يتناسب مع طموحاتها الساعية للدفاع عن مصالحها وعدم استهلاك قوتها العسكرية، الأمر الذي يتواءم مع رغبة قوى إقليمية دولية تبحث عن دولة معتدلة تسهم في تسوية النزاعات وتكبح جماح جهات تحاول استمرار الفوران في المنطقة والبناء على ارتداداته السلبية، وهو ما يجعل القوة العسكرية لمصر أداة من أدوات خفض التوترات الإقليمية.

9