القطاع العام.. في البدء كان الفساد

على خلفية الحادثة الأخيرة التي أودت بحياة 12 رضيعا، والرقم مرشح للارتفاع، تداعت أصوات كثيرة، استسهلت تبسيط القضية وأسبابها، المباشرة والعميقة، وتداعياتها ومآلاتها، وقدرت أن الحل لتفادي مصائب شبيهة قادمة لا يحصل إلا بالمراهنة على القطاع الخاص، في الصحة كما في التعليم والنقل وغيرها من القطاعات التي مازالت تحت إشراف الدولة. للقضية، كما للدعوات المترتبة عليها، مداخل كثيرة للفهم وجغرافيات كثيرة للمقارنة. على أن الضرورة تقتضي الإشارة إلى أن الجدل بين إشراف الدولة والخوصصة، نزاع قديم بدأ منذ نشأة المدارس الاقتصادية؛ الاشتراكية والرأسمالية ومدارس الاقتصاد التدخلي وغيرها.
يحاجج المدافعون عن الخوصصة بالتردي المريع الذي تشهده خدمات القطاع العام، وبكون هذا القطاع منتجا للكوارث بالضرورة، وأنه قرين الإفلاس وسوء التصرف وغير ذلك من الحجج، على أن التنسيب يقتضي أيضا أن نطل على القضية من موقع يسمح بتبين حدود هذا القول، كما الاعتراف بالأمراض العضال التي يعرفها القطاع العام، وهي كثيرة، وهي ليست أمراضا ناشئة من الجسد نفسه، بقدر ما هي مترتبة عن عقليات وممارسات راسخة متصلة أساسا بغياب القانون والوعي المواطني، وهي عقليات ستظل تلقي بظلالها وإن خُوصصت كل القطاعات على بكرة أبيها.
منذ الاستقلال اختارت الدولة التونسية أن تكون دولة مشرفة على القطاعات الأساسية الحيوية المتصلة بحياة المواطنين؛ على غرار الصحة والتعليم والنقل، وكان الإشراف على هذه القطاعات نابعا من منطلقين. الأول حقوقي ينهل من الثقافة الكونية لحقوق الإنسان، إذ تعتبر الشرعية الدولية لحقوق الإنسان مثلا أن “التعليم لا يعتبر امتيازا، بل هو حق من حقوق الإنسان” وأنه “على الدولة أن تُلزم بحماية الحق في التعليم واحترامه وإعماله”. كما نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على عدد من “التدابير التي يتعين على الدول الأطـراف اتخاذها لتأمين الممارسـة الكامـلة لهذا الحق”. المنطلق الثاني للإصرار على إشراف الدولة على هذه القطاعات هو منطلق تنموي سياسي، إذ أن الدولة الوليدة أيقنت أن إشرافها على تلك القطاعات يدخل في باب مسؤولياتها التنموية والاقتصادية تجاه شعبها. ورغم تباين المراحل والرهانات الرسمية الاقتصادية التونسية، إلا أن تلك الدولة ظلت وفية لالتزاماتها في هذه القطاعات، رغم العديد من الصعوبات التي عاشتها ومازالت تعيشها أغلب المؤسسات والقطاعات العمومية.
الأصوات المنادية بخوصصة القطاعات العامة، تلتقي مع الدعوات المتتالية التي تنادي بها الصناديق المالية الدولية، وإن غلفت هذه الدعوات بضرورات الإصلاح
المؤسسات والقطاعات العمومية تعيش صعوبات اقتصادية، أجمعت كل القراءات على خطورتها، ليس لأنها عمومية أو خاضعة لإشراف الدولة، بل لوجود ظواهر عميقة اتصلت بها وبتسييرها، ومنها سوء التسيير والفساد فضلا عن العقلية المواطنية التي تتعامل معها على أنها جزء من “الغنيمة الوطنية” إضافة إلى وجود عمليات استهداف دفينة بغاية تسريع التفويت فيها.
هذه الهنات يمكن معالجتها بإخضاع المؤسسات التي تمر بصعوبات مالية أو اقتصادية إلى أساليب تصرف وتسيير علميين، تحول هذه المؤسسات والمنشآت إلى مؤسسات ذات جدوى اقتصادية. إذ لا يعقلُ مثلا أن تمر مؤسسة وطنية تحتكر توزيع الكهرباء ولا تتعرض لأي منافسة، بصعوبات اقتصادية أو تتراكم ديونها، لو لم يكن وراء الأكمة ما وراءها من سوء تصرف وفساد يضرب عميقا في كل مفاصلها.
الواضح أن الأصوات المنادية بخوصصة القطاعات العامة، وبالتالي تخلي الدولة عن إشرافها القديم على التعليم والصحة والنقل، تلتقي مع الدعوات التي تنادي بها الصناديق المالية الدولية، وحتى إن غلفت هذه الدعوات بضرورات الإصلاح التي تقتضيها الاقتصاديات المتداعية لدول كثيرة. وهذا الالتقاء يعني أن القضية ليست اقتصادية فقط بل هي قضية سياسية بكل ما في الكلمة من تداخل. الجدل بين القطاع العام وضرورات الخوصصة هو جدل فكري وأيديولوجي، بين منظومة التوجهات الاجتماعية التي تسعى إلى المحافظة على مصد سميك يجنب الاقتصادات الوطنية الهزات المتصلة بالأزمات الاقتصادية العالمية، وبين منظومة ليبرالية نجحت في التسرب إلى شرايين الحكم، وتحاول الهيمنة على القطاعات الحيوية بتعلات المنافسة الاقتصادية والجدوى والمردودية.
الثابت أن المعضلة لا تكمن في إشراف الدولة على هذه القطاعات من عدمها، بل إن السؤال يذهب نحو اتجاه آخر مفاده، هل توجد إرادة في مكافحة الفساد وسوء التصرف؟ الدليل على أهمية السؤال هو أن تونس عرفت في العام 2016 قضية أخرى لا تقل خطورة عن حادثة الأسبوع الماضي، وهي قضية تورط 14 مصحة في قضية اللوالب الطبية منتهية الصلوحية، وهو ما يعني أن القطاع الخاص، أيضا، يمكن أن ينتج كوارثه ومآسيه إن استشرى فيه الفساد وسوء التصرف.