القبض على خليفة داعش استثمار سياسي تركي في هزيمة التنظيم

أنقرة تزاحم واشنطن في رؤاها الأمنية وتوحي بقدرتها على استهداف قادة التنظيمات الإرهابية.
السبت 2022/05/28
داعش ورقة مهمة لأنقرة

استثمرت تركيا المتخبطة في الأزمات في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لتعلن القبض على خليفته الجديد، بحثا عن أي فرصة لعقد صفقات ولامتلاك ورقة مهمة يمكن أن تستثمرها لمساومة القوى إقليميا ودوليا لتحقيق أهدافها.

ينطوي توقيت إعلان تركيا عن القبض على شقيق خليفة داعش الأسبق أبوبكر البغدادي وأنه الخليفة الحالي أبوالحسن الهاشمي، على رغبة في صناعة دور في هزيمة التنظيم المهزوم أصلا لتحصيل مكاسب عديدة.

قال مسؤولون أتراك الخميس إن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جرى إبلاغه باعتقال قيادي مهم في داعش، يُدعى جمعة عواد البدري، ويُعتقد أنه هو أبوالحسن الهاشمي القريشي الذي قاد التنظيم بعد مقتل خليفته السابق في فبراير الماضي، ومن المتوقع أن تُعلن تفاصيل أخرى عن عملية الاعتقال الأيام المقبلة.

وتُعد الخطوة التركية اختراقا لساحة هي امتياز للولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية "قسد" والتحالف الدولي، وهي الأطراف صاحبة الجهد الأكبر في هزيمة داعش وإضعافه.

وبصرف النظر عن الدور الذي يلعبه جمعة البدري ومكانته الحالية وما إذا كان هو الخليفة أم لا بعد أن تضاربت الآراء في هذا الشأن، يبدو أن أنقرة تريد أن تصبح في بؤرة الضوء في ملف داعش من زاوية أخرى، أو أخذ اللقطة كما يقال، في الوقت الضائع ليظهر أن لها دورا في مكافحة التنظيم بعد سنوات من غموض العلاقات بينهما، واتهام بعض الدول لأنقرة بدعمه وتوظيفه عسكريا وسياسيا.

رسالة أنقرة لواشنطن

 إضعاف داعش لعبة أنقرة المكشوفة
 إضعاف داعش لعبة أنقرة المكشوفة 

جرى إضعاف داعش وجعل كل قائد جديد يتولى مهامه مكشوفا ومهددا بالقتل سريعا بجهود الولايات المتحدة عبر ملاحقات استخباراتية مكثفة، وتمكنت قوات كوماندوز أميركية من قتل مؤسس التنظيم أبوبكر البغدادي عام 2019، وقتل خليفته الثاني حجي عبدالله قرداش فبراير الماضي.

ويشير قفز تركيا على هذه الحالة في ظل الانتكاسات الكبرى التي يحياها داعش إلى رغبتها في مزاحمة واشنطن في هذا الملف الذي تستخدمه لممارسة نفوذها وفرض رؤاها على باقي الأطراف.

وتضرّرت أنقرة من بعض الإملاءات الأميركية في هذا الشأن، خاصة تلك التي تعارض مصالحها وتعوق تنفيذ خططها، حيث سبق للولايات المتحدة إعلان رفضها إقامة تركيا للمنطقة الآمنة في الشمال السوري مع استمرار نشاطات الخلايا النائمة لداعش.

اختراق تركيا لملف مكافحة داعش يبعث برسائل مفادها أن أنقرة تملك أيضا قدرات استخباراتية مكنتها من اعتقال الخليفة

ويبعث اختراق تركيا لملف مكافحة داعش في هذا التوقيت بالإعلان عن القبض على شخصية قيادية بحجم جمعة البدري والتلميح بأنه هو الخليفة الحالي، برسائل مفادها أن أنقرة تملك أيضا قدرات استخباراتية مكنتها من اعتقال الخليفة وليس فقط قتله على الطريقة الأميركية مع سابقيه.

ولقي أبوبكر البغدادي وأبوإبراهيم القريشي (عبدالله قرداش) مصرعهما بتفجير نفسيهما وأفراد عائلاتهما خلال شن القوات الأميركية غارات على مخابئهما في شمال سوريا.

وتهدف المزاحمة التركية في هذا الملف إلى حرمان الولايات المتحدة من توظيفه في فرض رؤاها على الآخرين، وإثبات أن أنقرة قادرة على التعامل مع خطر داعش وخلاياه النائمة وعناصره الذين تروج واشنطن أنهم سوف ينشطون أكثر بوجود المنطقة الآمنة التي يعتزم الأتراك إقامتها.

وتبرهن واشنطن على ذلك بأن البغدادي وقرداش كانا متمركزين في إدلب بالقرب من الحدود السورية - التركية، وهي منطقة تقع تحت سيطرة فصائل موالية لأنقرة وخارج سيطرة الحكومة السورية، علاوة على أنها موطن للملايين من اللاجئين السوريين والمقاتلين الأجانب.

وكان الرئيس التركي قبل إعلان القبض على خليفة داعش جمعة البدري بأيام قليلة هدد بتنفيذ عمليات عسكرية في سوريا، وهي عمليات، إذا أجريت، تمهد لمشروع المنطقة الآمنة شمالي سوريا، في سياق سعيه لإعادة مليون ونصف مليون لاجئ سوري الشهور المقبلة.

منافسة قسد

رؤية تركية مختلفة لدور الأكراد في الحرب على  التنظيم
رؤية تركية مختلفة لدور الأكراد في الحرب على  التنظيم  

تحرص أنقرة حاليا على تقليل قيمة الرهان الغربي والأميركي على جهود الأكراد في محاربة داعش وتقويض تهديداته ومخاطره، لاسيما وأن إسهامات قوات سوريا الديمقراطية "قسد" هي ما ألحقت بداعش نكسات أمنية كبيرة منذ مطلع عام 2019.

وتدخل منافسة تركيا لقسد في الوقت الضائع في ملف مكافحة داعش في صلب خطط تركيا الرامية لاستثمار عملياتها العسكرية السابقة بالتعاون مع بعض الفصائل الجهادية بالشمال السوري للربط بين مناطق تقع تحت سيطرة الأخيرة وأخرى تخضع للسيطرة الكردية.

وتشمل المنطقة الآمنة وفق المخطط التركي مدنا وبلدات بمحافظات حلب والرقة والحسكة، ممتدة على طول 460 كيلومترا وبعمق 30 كيلومترا على الحدود التركية - السورية.

وتقف قسد التي تلعب الدور الرئيسي في محاربة داعش بالتعاون مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي عقبة أمام مشروع تركيا، حيث يتطلب إنشاء المنطقة الآمنة التي تتحدث عنها أنقرة منذ 2013 إبعاد قوات سوريا الديمقراطية وإحلال اللاجئين السوريين محلها.

أنقرة تحرص حاليا على تقليل قيمة الرهان الغربي والأميركي على جهود الأكراد في محاربة داعش وتقويض تهديداته ومخاطره

ولن تنحصر المواجهة إذا نفذ الرئيس التركي تهديداته باجتياح عسكري جديد مع الطرف الكردي، حيث أن المنطقة المستهدفة تشمل مدينة القامشلي وبها تمركزات لقوات النظام السوري وقوات روسية، ما يعني أن المعارك ستكون موسعة وطويلة ومكلفة إذا اندلعت.

ولذلك يناور الرئيس التركي بأوراق بديلة للمواجهات العسكرية يرسل من خلالها رسائل لمختلف الأطراف في الداخل السوري خاصة للأوروبيين والأميركيين والروس.

وطرح أردوغان بخطوة إعلان إلقاء القبض على من يُظن أنه خليفة داعش الجديد على الجميع تصورا لمعادلة مختلفة مؤداها تعاون أنقرة في ملف مكافحة داعش وتعويض أدوار قسد في هذا الإطار مقابل التعاون في تحقيق مصالح تركيا وتفادي العمل العسكري المباشر.

يعد التحول على مستوى استهداف زعيم التنظيم، أو على الأقل أحد قادته الكبار، محسوبا ضمن جملة من التحولات التركية بهدف إعادة صياغة العلاقات مع دول الإقليم.

وكما يصب تفكيك الروابط وتقليص الدعم لتيار الإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين في صالح تحسين العلاقات مع مصر ودول الخليج، يصب أيضا إثبات تركيا أنها رقم مهم في مكافحة داعش في توطيد علاقاتها مع الدول المعنية بهذا الملف التي تتعرض لتهديدات مستمرة من قبل داعش، ومن ضمنها إسرائيل.

تحولات تركية

انتصار وهمي لا يمكن البناء عليه
انتصار وهمي لا يمكن البناء عليه 

ولم يعد داعش يتمتع بقوته السابقة التي دفعت أنقرة سابقا لعدم التعاون في جهود مكافحته، حيث يعاني من الانقسام والتشتت وتسرب العديد من عناصره ونقص الموارد البشرية وعدم القدرة على حماية قادته نتيجة المراقبة الصارمة والملاحقة الدؤوبة من أجهزة الاستخبارات الغربية.

وحرصت الأجهزة التركية على ظهور نوعي في هذا السياق، ولو جاء متأخرا، بالنظر لمدى أهمية القبض على رأس التنظيم حيا دون قتله والحصول على معلومات ثمينة بخصوص أنشطته وحركيته وتمويلاته وخطط فروعه وهياكله الإدارية.

ويُعد هذا التطور إنجازا لنظام يبحث عن عقد صفقات وتبادل مصالح على حساب تنظيم مهزوم فعليا منذ عملية الباغوز التي شنتها قوات التحالف ضده في 2019، وتحول داعش منذ ذلك الحين إلى اللامركزية في إدارة أنشطته التي باتت متواضعة عبر خلايا صغيرة متفرقة تهاجم أهدافا غير حيوية على الطرقات خاصة في مناطق البادية السورية وعند القرى النائية والنقاط العسكرية بين إقليم كردستان وبقية المحافظات العراقية.

وأغرى ضعف داعش وعدم امتلاك القدرة على الثأر لقادته تركيا لأن تتقدم خطوات في مسار الإفصاح عن العداء له، حيث باتت المكاسب القادرة على جنيها من وراء ذلك قريبة في وقت تقلص الخوف من امتلاكه القدرة على الرد والثأر.

ولا ترغب أنقرة في أن تطالها اتهامات بإيواء قادة داعش على أراضيها إذا جرى رصد واستهداف جمعة البدري من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في قلب إسطنبول، لذلك استبقت وقامت بالمهمة بنفسها.

التحول على مستوى استهداف زعيم التنظيم محسوب ضمن التحولات التركية لإعادة صياغة العلاقات مع دول الإقليم

وتدرك الأجهزة التركية أن الأوضاع الحالية المتردية لتنظيم داعش مقابل ما يمتلكه أعداؤه من قدرات استخباراتية ومالية هائلة وتقنية عالية، لن تسمح لقادة داعش وكل خليفة جديد بمواصلة التخفي والهروب.

علاوة على أن موقف جمعة البدري في غاية الضعف بالمقارنة بالبغدادي وقرداش لكونه مجهولا، ما يثير الانقسام، حيث يرفض قطاع داخل التنظيم مبايعة شخص مجهول كخليفة من منطلق قناعات عقائدية.

وليس هذا فحسب، بل إن الرجل متهم من عناصر تنتمي لداعش بالفساد المالي وهرب بالملايين من أموال التنظيم ليستثمرها لحسابه الخاص وحساب بعض المقربين منه، وهو ما ضاعف من طمأنة أنقرة بشأن عواقب استهدافه، حيث لن يتحمس أحد داخل التنظيم للانتقام لفاسد.

وفضلت أنقرة الإسراع بتنفيذ مهمة القبض على من تزعم أنه خليفة داعش الجديد قبل أن ينفذها أحد غيرها بما يوقعها في حرج بالغ ويفوت عليها فرص استثمار امتلاك ورقة مهمة من أوراق ملف داعش الذي يهم العديد من القوى على الساحتين الدولية والإقليمية لتنفيذ خططها وتحقيق أهدافها.

7