الفنان الحقيقي ليس كائنا ذكيا

لا يجسد الفن لحظة تفوق لكي يكون في إمكان الذكاء الاصطناعي التقاطها والعمل على تطويرها أو على الأقل في سياقها. الهشاشة الإنسانية التي تنطوي عليها الممارسة الفنية لا يمكن استنباط قانون رياضي منها، لذلك تظل أشبه بالمرض الغامض الذي لا يمكن وصفه تماما من خلال بعض أعراضه.
الجوهري في الفن يكمن في اختلافه وشذوذه وانحرافه وليس في تطابقه وخضوعه وسويّته. بهذا المعنى يمكن القول إن الممارسة الفنية تظل على قدر من الغموض الذي لا يمكن تفسيره علميا.
فقد يفاجئك تفوق رجل عادي لم ينل من العلم، بذائقته الجمالية على عالم رياضيات يعرف كل شيء عن المعادلات الرياضية ولا يدرك ما يمكن أن ينتج عنها من إيقاعات كونية تستند عليها موسيقى هانس سباستيان باخ أو هندسيات بول سيزان المستترة.
وعي الفن هو غير التفكير فيه أو من خلاله. لذلك فإن أي محاولة لتجريده من طابعه الإنساني إنما هي نوع من اللهو الفارغ. وقد يكون ارتفاع ثمن القطعة الفنية التي أنتجتها برامج وتقنيات الذكاء الاصطناعي تجسيدا للشعور بأنها ستكون قطعة فريدة من نوعها، لن يتم تصنيع قطعة أخرى منافسة لها.
إنها حدث فريد من نوعه، لذلك جرى عرضها للبيع في مزاد علني، ولم يتم ترويج الفكرة من خلال معرض عام يضم عددا آخر من القطع الفنية التي تم تصنيعها بالتقنية نفسها.
هناك علاقة خفية يقيمها مقتني العمل الفني بمنتج ذلك العمل هي أشبه بالمكيدة التي يتم من خلالها التوصل إلى ما يسمى بالذائقة الجمالية. في حالة الذكاء الاصطناعي باعتباره منتجا تختل تلك العلاقة، ويكون العمل الفني بمثابة تطبيق لمعادلات لا يمكنها اختراق مستويات العاطفة الإنسانية التي تتحرك لا شعوريا في مواجهة الجمال، باعتباره حدثا غير مسبوق وغير متوقع.
هناك مَن يحاول الطعن في شرعية الفن من جهة التمكن التقني منه.الفن ضعيف والجمال قليل. ما تتمكن منه الآلة لا يقوى عليه الفن. أما العثرات التي يرتكبها الجمال فهي تصدر عن ارتباكه وضعف ثقته، فالجمال لا يمشي ملكا واثق الخطوة كما يقول الشاعر. خجله يكاد يخفيه.
الفنان هو الكائن الوحيد الذي لا يخجله أن يعترف بعيوبه. ذلك ما لا يمكن أن يرقى إلى إدراكه واستيعاب قيمته الذكاءُ الطبيعي أو الاصطناعي
لذلك يمكن أن تحتويه التقنيات الحديثة لأنه الخطأ في الحساب، الصفر الذي لا يجد له مكانا بين الأرقام المتبناة من قبل الكمبيوتر، فإنه يفلت من أي محاولة لاحتوائه. يمكن للتقنيين أن يقلدوا جمالا متاحا غير أنهم يعجزون عن ابتكار جمال جديد كما هو حال الفنان الحقيقي.
هناك خيط غير مرئي لا تصل إليه المعادلات الجاهزة. فالفن ليس دائما هو النتيجة الصحيحة. لو كان كذلك لأصبح حَمَلة الشهادات العليا في الفن فنانين، ولم ينحط بهم المستوى إلى أن يكونوا أسوأ ممّن يتذوق الفن جماليا.
ولكن ألا تحتاج الممارسة الفنية إلى نوع من الذكاء؟ بالمعنى السائد لمفهوم الذكاء فإن الفنانين هم كائنات غير ذكية على المستويين الاجتماعي والثقافي. وما الدهاة الذين يظهرون بين حين وآخر بين أوساط الفنانين إلا مجموعة من الدهاقنة المتحذلقين الذين ينتحلون ما ليس لهم فيه حق.
ما يتميز به الفنان من صفات متطرفة في تطلبها لا علاقة له بالذكاء. كما هو الحال مع الرغبة في المجازفة والذهاب إلى أقصى المسافة من غير يقين مسبق. الفن هو، بالدرجة الأساس، محاولة لتحدّي الذات قبل أن يكون صراعا مع العالم الخارجي.
بهذا المعنى يكون الفنان كائنا تخترعه العزلة ليكشف عن مواقع نقصه. الفنان هو الكائن الوحيد الذي لا يخجله أن يعترف بعيوبه. ذلك ما لا يمكن أن يرقى إلى إدراكه واستيعاب قيمته الذكاءُ الطبيعي والاصطناعي على حدّ سواء.
غير أن هناك حاجة في المجتمعات المعاصرة إلى الفن باعتباره عنصرا تكميليا. تلك الحاجة لا يمكن أن يسدها الإنتاج الفني الحقيقي. تلك مهمة صارت مكاتب التصميم تتصدى للقيام بها، طريقة يتداخل من خلالها الخيال البصري والتقنيات الحديثة.
هناك اليوم الكثير من الفن في الأماكن العامة، غير أنه الكثير الذي لا يفكر في الانتصار على القليل الذي يُقاس من خلاله مستوى تفوق الإنسان على ذاته. يمكن لأجهزة الذكاء الاصطناعي أن تهتدي إلى مواقع الجمال عبر العصور، غير أن كل ذلك الجمال لا يمت إلى ماهيته وحقيقته بصلة. إنه جمال شكلي يقيم في القشرة ولا يقوى على خلق عاطفة أو حتى اختراقها.