الفلسطينيون موزعون بين ثقافتين.. الحرب والسلم

في الحالة الفلسطينية أرى أن ثقافة الحياة هي التي يجب أن تسود وهذا ليس تقليلا من وجاهة المقاومة المسلحة ولكن لتقديري أنها لا تصلح في الحالة الفلسطينية خصوصا في الوقت الحالي.
الأربعاء 2024/03/13
الموت ليس أقصر الطرق لهزيمة العدو

منذ بداية الحرب الجارية، ومن خلال النقاشات المستمرة مع الأصدقاء وما أتابعه على منصات التواصل الاجتماعي، أرى أن هناك مجموعتين من الأشخاص تخوضان سجالا فكريا ومذهبيا ساخنا، وخصوصا هؤلاء الذين يرون أن القضية الفلسطينية كانت قد أوشكت على الموت قبل السابع من أكتوبر.. وأنه لولا هذه الحرب لما عادت القضية الفلسطينية حية من جديد، وأن هذا العدو الغاشم لا يفهم سوى لغة القوة، وبالتالي إن المقاومة المسلحة هي الطريق الوحيد ولا يوجد طريق غيره، وهؤلاء يسوقون في معرض تبريرهم للخسائر المادية والبشرية الهائلة نتيجة للمقاومة المسلحة، أنه لا توجد دولة في العالم نالت استقلالها دون مقاومة مسلحة ودون تضحيات جسام يُتغنى بها في كتب التاريخ والمجلدات، والمثال الأكبر الذي يسوقه الجميع بعض الدول مثل الجزائر، وفيتنام وغيرهما.

ومن هذا المنطلق.. أرى أنه يجب أن نقوم بقراءة الأمور بشكل مختلف، حيث إن المفاهيم والطرق والوسائل تتطور مع تطور البشرية، وما كان يحتاج إلى أدوات معينة في زمن ما قد لا يحتاج إلى مثل تلك الأدوات في زمننا هذا.

◙ حركتا حماس والجهاد طورتا المفاهيم وساقتا ما أمكنهما من الآيات والأحاديث لتخدما مفهوم الشهادة في سبيل الله

ومنه أرى أيضا أن من خلال تطور المفاهيم الإنسانية خلال العقود السابقة انبثقت ثقافتان أو أسلوبان في هذا الموضوع، وهما ثقافة الحياة وثقافة الموت، أو بالأحرى أسلوب المقاومة بالحياة وأسلوب المقاومة بالموت، فالأولى تعتمد على أنه يجب أن يحرص الإنسان على الحياة بكل الطرق ليستطيع مواجهة عدوه وهذا يتطلب جهدا كبيرا، وعقلا رشيدا لابتداع الطرق الكفيلة بهزيمة العدو وأن يبقى المقاوم على قيد الحياة، أما الثانية فتعتمد على أن الموت هو أقصر الطرق لإلحاق الهزيمة بالعدو بمعنى أن تواجه العدو بشكل مباشر فتقتل وتقتل، أو تفجر نفسك وسط الأعداء فتلحق بهم الضرر الكبير، وإن تكرار هذا سيجعل العدو ينكسر وينهزم في نهاية المطاف لما يسببه له هذا الإقدام على الموت وعدم الخوف منه من خسائر على كل المستويات.

والخيار الأول هو خيار عقلاني تبناه أغلب الشعب الفلسطيني وعلى مر تاريخه النضالي، وخصوصا بعد نكبة عام 1948، وقد سارت في هذا الفكر على وجه التحديد حركة فتح التي تبنت خيار المقاومة المسلحة لفترة طويلة من الزمن والتي كانت في كل معاركها تسعى لهزيمة العدو ولكنها في نفس الوقت كانت تسعى للحفاظ على الحياة سواء لمقاتليها أو لشعبها ولا تسعى للموت، وتطور من أساليبها بناء على ذلك وعلى قاعدة أن الموت حاصل لا محالة وأنه يجب على الإنسان أن يسعى للحياة بكل ما أوتي من قوة ويقوم بما يلزم وبشتى الطرق من أجل مقارعة الاحتلال والانتصار عليه وليعيش هذا الانتصار بنفسه، وقد طورت الحركة الكثير من الأساليب إلى جانب الكفاح المسلح، وذلك في مجالات الثقافة والأدب والفنون المختلفة والدبلوماسية والسياسة وغيرها، وبناء على المعطيات المختلفة ورؤيتها لحيثيات الصراع تبنت في النهاية خيار المقاومة السلمية بالرغم من بطء هذا الخيار في تحقيق الهدف إلا أنه يضمن على الأقل ألّا تكون هناك خسائر فادحة وأن يحمي حياة الإنسان التي هي الأهم من كل شيء أو على الأقل أن يقلل من الخطر عليها بأقصى قدر ممكن.

أما الخيار الثاني فهو خيار تبنته الحركات المبنية على أيديولوجية دينية سواء كانت إسلامية أو غيرها، وقد اعتمدت هذا النهج حركتا حماس والجهاد وقد طورتا المفاهيم وساقتا ما أمكنهما من الآيات والأحاديث لتخدما مفهوم الشهادة في سبيل الله، وتحضا منتسبيهما على أنه بالموت يرتقي الإنسان إلى السماء ويبقى حيا إلى أن تقوم الساعة فيدخل الجنة وهو من الناجين ويدخل الجنة بدون حساب، وأنه فقط بالتضحية بالنفس والمال يتحقق النصر، معتمدتين مفهوم الجهاد ومغفلتين تماما الجانب الآخر لما ورد في القرآن والسنة والذي يطلب من الناس ألا يسعوا للتهلكة.

◙ من خلال تطور المفاهيم الإنسانية خلال العقود السابقة انبثقت ثقافتان أو أسلوبان في هذا الموضوع، وهما ثقافة الحياة وثقافة الموت، أو بالأحرى أسلوب المقاومة بالحياة وأسلوب المقاومة بالموت

وهنا يجب أن نتوقف لنقيم كلا النهجين لنرى أيهما يصلح في الحالة الفلسطينية، فنحن من الحالات الفريدة في هذا العالم. ففي كل حالات استقلال الدول التي تساق كأمثلة، كانت الحالة أن دولة احتلت دولة أخرى وباتباع المقاومة المسلحة كنهج والذي أدى في النهاية إلى التفاوض الذي أدى إلى انسحاب القوات الغازية إلى دولتها ونالت تلك الدول استقلالها. أما في الحالة الفلسطينية فهي مسألة مختلفة تشبه إلى حد كبير ما جرى في أميركا وأستراليا من أن شعوبا من دول أخرى جاءت لتستوطن تلك الدول وتحل محل سكانها الأصليين وبالتالي أول ما قامت به هو إبادة السكان الأصليين لتحل محلهم وقد نجحت في ذلك بالرغم من التضحيات العظيمة التي قام بها السكان الأصليون للدفاع عن أراضيهم! والذين كانوا يفتقدون للعلم والقوة الكافية لمجابهة هؤلاء الغزاة فتم القضاء على غالبيتهم ومن بقوا منهم على قيد الحياة أصبحوا أقلية تخضع للأغلبية. وهو تماما ما حاولت إسرائيل القيام به في عام 1948 عبر ارتكابها العديد من المجازر ودفع السكان الأصليين إلى الرحيل، ولكنها لم تنجح بسبب تمسك الشعب الفلسطيني بأرضه وبسبب علمه وفطنته واختياره للأدوات والوسائل المناسبة وكذلك دعم أشقائه من الدول المجاورة وأيضا حبه للحياة! وعليه لا يصلح القياس بين مختلف الحالات التي نالت فيها الشعوب استقلالها وبين الحالة الفلسطينية.

وهنا في الحالة الفلسطينية يُطرح سؤالان: هل إن المقاومة المسلحة لا تصلح لعوامل كثيرة ترتبط بالقوة العسكرية والاقتصادية، بالرغم من تقديم النفس والمال في سبيلها؟ أم إن الصمود على الأرض وتعزيز هذا الصمود وتطوير أساليب جديدة في المقاومة تعتمد على المحافظة على حياة الناس ومقدراتهم هو ما يصلح؟ وأنا أجيب بأنني أرى أن ثقافة الحياة هي التي يجب أن تسود، وهذا ليس تقليلا من وجاهة المقاومة المسلحة ولكن لتقديري أنها لا تصلح في الحالة الفلسطينية وخصوصا في الوقت الحالي.

9