الفقراء ومحدودو الدخل أول المتضررين من الأزمات الاقتصادية

ليس مطلوبا منا أن نكون متضلعين في نظريات الاقتصاد لنفهم -وبأقل مجهود ممكن- أن السياسة هي التي أفسدت الاقتصاد، وأن المتضرر الأساسي في كل هذا من انتمى إلى الطبقات الوسطى والفقيرة والمعدمة.
الأحد 2018/10/21
هؤلاء ضحايا الإفلاس التنظيمي والتسييري للموارد الطبيعية والبشرية

تعيش جل بلدان العالم أزمات اقتصادية تتفاوت حدّتها من بلد إلى آخر بحسب درجة التطور والنمط الاقتصادي وحجم المشاركة في الاقتصاد العالمي، ولكن هذه الأزمات اشتدت وطأتها على المجتمعات الأقل تطورا اقتصاديا والتي تحتكم إلى اقتصادات هشّة استهلاكية، كما هو الشأن بالنسبة للبلدان العربية التي تتفاوت فيها حدّة الأزمة الاقتصادية بمعيار مدى امتلاك الثروات الطبيعية والبترولية بالخصوص.

لسنا بصدد دراسة أسباب الأزمة ومظاهرها اقتصاديا وماليا، ولكننا بصفتنا مواطنين عاديين نشتغل في السلك الوظيفي أو نمارس أنشطة حرفية أو تجارية صغيرة، يبدو علينا التعب والانهيار أحيانا ونحن نصارع من أجل الحفاظ على تماسك عائلاتنا وأسرنا في هذا الخضمّ الذي أسدل ظلاله الكثيفة على القدرة الشرائية وعلى الإيفاء بالتعهدات العائلية الملحّة، على مستوى الاحتياجات اليومية الروتينية، الأكل والشرب والدراسة والصحة دون اعتبار الجانب الترفيهي الذي أضحى من الكماليات في هذه الأيام.

الكثير منا -بمن فيهم من الطبقة المثقفة والمتعلمة- لا يفقهون شيئا في مصطلحات ومفاهيم متعلقة بمجالي الاقتصاد والمال، كمفهوم التضخّم وتعويم العملة وتحرير الدينار ونسبة الفائدة والعجز التجاري ونسبة النموّ.. ولكنهم يكثفون البحث ويجتهدون لفهمها ليس من باب التعلّم أو المعرفة المحضة، ولكن لاستيعاب الارتدادات المالية بالخصوص على مستوى عيشهم كأفراد أو كأسر. انخفضت قيمة العملة، الدينار التونسي مثلا أو الليرة التركية أو الجنيه المصري، وانعكس ذلك مباشرة على المقدرة الشرائية التي أضحت في أسوأ حالاتها، خاصة بالنسبة للشرائح الاجتماعية الفقيرة أو محدودة الدخل.

وانخفاض قيمة العملة يساهم في ارتفاع نسبة التضخّم وكلما ازداد هذا الارتفاع كلما ساءت أحوال الناس، ويبدأ مستوى العيش في الانحدار والتدني بدءا بالانتقاء عبر التخلص من المصاريف المخصصة لبعض “الكماليات الضرورية في عصرنا” كالهاتف والسيارة أو الترفيه والسياحة. ثمّ يعمد البعض إلى التقشف القسري في ما هو ضروري كالأكل الذي يفقد تنوعه وثراءه الغذائي ما ينقص من قيمته الغذائية وهو ما يؤثر سلبا خاصة على نمو الأطفال الصغار، فحينما يختلّ التوازن باختلال الكميات من البيض واللحوم والأسماك والحليب.. تصبح هذه المواد موسمية على الموائد.

ويمتدّ الأمر ليمسّ مجالات حيوية أخرى في حياة الناس وفي هذا الإطار أسوق مثال الدواء الذي شهدت كمياته نقصا حادا، وفي بعض الأحيان تنعدم أدوية معينة من السوق رغم تضاعف أثمانها بحجة أنها مستوردة بالعملة الصعبة، فحين تفقد أدوية حيوية لمداواة الأمراض المزمنة كالسكري وضغط الدم أو الأمراض المستعصية كالسرطان عافاكم الله، يصبح القطاع الصحي يعاني أزمة حقيقية نتيجة الأزمة الاقتصادية الخانقة.

في هذا الخضمّ من المعاناة اليومية المترتبة عن الأزمات الاقتصادية والتي استفحلت إلى درجة أنها أصبحت لا تطاق وأضحى الناس -خاصة في ما سمي ببلدان الربيع العربي التي شهدت ثورات- يعانون من ضيق الآفاق المعنوية والمادية ما جعل الآمال كلها تنحصر في تحسين مستوى العيش، حيث غابت الأحلام الكبيرة بالديمقراطية والحرية وغابت معها الدوافع الإيجابية للحياة.

هذا الوضع “الكارثي” في أغلب واجهاته غيّر حتى الأفكار التقدمية الرائدة كما غيّر الانتظارات والقيم، وأصبح كل فرد يفكّر فقط كيف يتجاوز الضغط الأسري المسلط عليه، كيف سيواجه متطلبات أولاده المادية، وكيف سيتحكم في مخلفات التضخم وانحدار قيمة العملة في مقابل ارتفاع صاروخي للأسعار؟

كان البسطاء ينتظرون من الساسة تخليصهم من مخلفات الاستبداد والدكتاتورية وعلى رأس ذلك الوعود برفاهية العيش التي قدموها في كل المناسبات الانتخابية، وبعدها يتضح العجز وخاصة في المجال الاقتصادي الحيوي والذي يتصل مباشرة بمستوى العيش اليومي فيزيد من وطأة هذه الحياة ويعمّ التشاؤم وينعدم الأمل ما يجعل الإدمان ينتشر بين صفوف الشباب، كما الهجرة السرية التي أودت بحياة المئات منهم، كما الجريمة التي تفشت ففقد الناس الأمن والأمان.

ماذا يفعل أولياء الأمور لإقناع منظوريهم بالاجتهاد في الدراسة والتحصيل العلمي وهم يشاهدون جحافل البطالين تتعاظم وأعدادهم ترتفع في اطّراد مخيف، فحين تشحّ الموارد المالية يصيب العجز كلّ تفاصيل الحياة اليومية، حتى التفكير الممنهج والمنطقي يصاب بالشلل، وتتعطل دوافع الفعل الإيجابي.

ليس مطلوبا منا أن نكون متضلعين في نظريات الاقتصاد لنفهم -وبأقل مجهود ممكن- أن السياسة هي التي أفسدت الاقتصاد، وأن المتضرر الأساسي في كل هذا من انتمى إلى الطبقات الوسطى والفقيرة والمعدمة، ومن كان من ضمن العائلات محدودة الدخل، فكل هؤلاء ضحايا الإفلاس التنظيمي والتسييري للموارد الطبيعية والبشرية في أي مكان في العالم.

حين تفكّر كل التوجهات الاقتصادية والمالية في إشباع بطون كل الجائعين، وحين تخفّ وطأة الأنانية والجشع والانتهازية ومحاولة الإثراء بأي شكل كان، وحين تخفف الأنظمة المالية ومؤسسات الإقراض العالمي من قيودها على الشعوب الفقيرة، وقتها فقط ينعم الناس بالحدّ الأدنى من الاستقرار المادي والغذائي والنفسي، وربما يتجدد الأمل بغد أفضل.

21