الفضائح أداة دعائية في الحملات الانتخابية في العراق

بعد تداول مواقع التواصل الاجتماعي لمقطع فيديو فضائحي مزعوم ادعى مروّجوه أنه لأستاذة جامعية مرشحة للانتخابات العراقية، أصدرت وزارة التعليم العالي قرار إيقاف الضحية عن العمل. وبررت ذلك القرار بأنه جاء “احترازا وحفاظا على هيبة الوظيفة العامة وتجنبا لكل ما يمس بها”، ما يعني أن الوزارة تعتبر هيبة الوظيفة العامة أهم من سمعة وكرامة إنسان، وأهم من سمعة وكرامة عضو في هيئة التدريس الجامعي.
شكلت حملة التشهير صدمة وإساءة بالغتين للوجدان الجمعي العراقي ولكل النساء المتصديات للشأن العام، وسمحت للخطاب الشعبوي بالانفلات وبث مشاعر الازدراء ضد المرأة التي تنخرط في العمل العام. ولذلك فإن من حق الأكاديمية الضحية أن ترفع دعوى قضائية على وزارة التعليم العالي لأنها شاركت في التشهير بها وتشويه سمعتها عبر الاستجابة للنزعة الفضائحية بقرار إيقافها عن العمل قبل التحقيق في الواقعة وإثباتها وتحديد درجة مسؤولية الضحية ووجه الإدانة القانونية لها.
إنها الرسالة الخطأ التي أوصلتها الوزارة وهيئات التدريس إلى طلبتها وإلى المجتمع. انشغلت الوزارة بالجريمة الافتراضية (احتمالية ثبوت التهمة على الضحية) وتركت الجريمة الحقيقية الماثلة أمامها وهي جريمة التشهير والافتراس الجماعي لسمعة الضحية.
وكان ائتلاف النصر بقيادة رئيس الوزراء حيدر العبادي قد شارك أيضا في التشهير بالضحية عندما استبعدها من قائمة مرشحيه للانتخابات بدعوى “عدم التزامها بشروط الترشيح”، وهي العبارة التي تضمنت تلميحا إلى التسليم بصحّة الفيديو وشكّلت اغتيالا معنويا للضحية.
كان يفترض بالعبادي أن يرفض بوضوح وصرامة التشهير بامرأة بهذه الطريقة لا سيّما وأن نشر الفيديو يأتي في توقيت ملتبس ومشحون حيث تتصاعد حمى التسقيط السياسي بين القوى المتنافسة في انتخابات مايو 2018؛ بمعنى أن شبهة الفبركة والاستهداف السياسي حاضرة بقوة.
كما أن احتمالية الفبركة قد تعني أن المرشحة دفعت من سمعتها ثمن صراع العبادي مع منافسيه الذين يريدون ضرب سمعة ائتلافه والإضرار بحظوظه الانتخابية المتوقعة.
كان يفترض بالعبادي أن يرفض بوضوح وصرامة التشهير بامرأة بهذه الطريقة لا سيّما وأن نشر الفيديو يأتي في توقيت ملتبس ومشحون.
ويذكرنا سلوك صانع القرار العراقي اليوم بما حصل في عهد حكومة المالكي الأولى، فعندما ادعت مواطنة تعرّضها للاغتصاب على يد قوات الأمن، وكان للقضية بُعد طائفي، نفى المالكي ادعاءاتها وقام بتكريم الضباط المتهمين ووصفهم بـ”الشرفاء” عوض التحقيق معهم، فسمح بتحوّل القضية إلى مادة لزيادة الانقسام الطائفي في المجتمع يتم استدعاؤها في خطابات الكراهية حتى هذه اللحظة، بينما كان بإمكانه أن يجعلها مدخلا لتوحيد المجتمع بأن يتبنى القضية ويعلن التزامه بأخذ حق الضحية فيأمر بالتحقيق في الادعاء ويتوعّد المتورطين إذا ثبت تورطهم؛ وبذلك كان سيوحّد العراقيين ويكسب دعم الشارع العراقي في قضية تحظى بالإجماع لأنها تتعلق بالشرف والسمعة.
كان بإمكان العبادي أيضا أن يرفض التشهير بالأكاديمية المرشحة ضمن ائتلافه، وأن يتحمّل تجاهها المسؤولية السياسية والدستورية كمواطنة والمسؤولية الأخلاقية كامرأة في مجتمع محافظ فيحوّل بذلك القضية لصالحه وصالح ائتلافه عبر جعلها قضية وطنية مُلهِمة تجعل العراقيين يؤيدونه فيها ويعيدون اكتشاف ذاتهم الأخلاقية، ويجمع العراقيين خلفه حول قضية تحظى بإجماعهم وتحتل موقعا مركزيا في الثقافة الاجتماعية وهي قضية “الشرف” وصون الحرمات والخصوصيات. لكنه لم يفعل واختار التخلي عن المرشحة والتصرّف كرجل سياسة يحابي النزعات الشعبوية حرصا على مصالح انتخابية.
يعكس خضوع الدولة للنزعة الشعبوية تنصّلها من النهوض بمسؤوليتها في التغيير الاجتماعي والثقافي وقيادة قاطرة التقدم الحضاري في البلاد. فالشعبوية بما هي اللاعقلانية والنزعة الانفعالية تشكّل أحد منتجات النظام السياسي العراقي لأنه نظام يقوم على تأجيج النعرات الطائفية والجهوية، وهي اليوم ترتد عليه في صورة حالة من السخط الشعبي العارم ينطبق عليها تعريف عالم الاجتماع الأميركي إدوارد شيلز للشعبوية بأنها “أيديولوجيا الاستياء الموجّهة ضد نظام اجتماعي مفروض من قبل طبقة مضى على وجودها في وضع الهيمنة فترة زمنية طويلة، ويُفترض أنها تحتكر السلطة والثروة والامتيازات والثقافة”.
واستنادا إلى هذا التعريف فإن حملات التشهير المكثفة التي طالت المرشحة الضحية وغيرها من مرشحات الانتخابات على مواقع التواصل الاجتماعي إنما تعكس النقمة السائدة في الطبقات المهمشة على النظام السياسي العراقي القائم على التمييز الاجتماعي والاقتصادي ومحاباته للنخب والطبقتين العليا والوسطى المرفهتين على حساب الطبقات الأدنى الفقيرة، وسعي هذه الطبقات المحرومة أو التي ترى نفسها كذلك للانتقام من النخب المهيمنة عبر واحدة من أكثر وسائل الانتقام إيلاماً وتعبيراً عن الغضب والرفض والعداوة وهي التشهير الجنسي بالضحايا.