الفضاء الرقمي ساحة بديلة لحزب التحرير المحظور في إندونيسيا

في مسعى للرد على قرار حظره من السلطات الإندونيسية نقل حزب التحرير الإسلامي المتشدّد نشاطه إلى الفضاء الرقمي، حيث بات يمتلك خبرات كبيرة قياسا بخصومه المتحدثين باسم الإسلام سواء من المتشددين أو المعتدلين، وهو ما يفسّر قدرته على المناورة والاستقطاب.
على الرغم من حظر إندونيسيا لحزب التحرير منذ أربعة أعوام، فهو لا يزال مستمرا في أنشطته التبشيرية عبر الفضاء الرقمي مُصدرا متعاطفين غير منتمين يروجون لأيديولوجية الحزب دون ذكر اسمه صراحة.
ويشهد الفضاء الإلكتروني حراكا غير مسبوق حاليا، حيث تتبارى كيانات أيديولوجية وشخصيات تعتنق الأفكار المتشددة بجانب وعاظ معتدلين وكيانات دينية وسطية في عرض الأفكار والردود على مخالفيهم، مكتسبين أرضية جماهيرية تنافس المشاهير في مجال الفن، فقد بات لديهم الملايين من المتابعين.
ولدى فيليكس سياو وهو أحد زعماء حزب التحرير في إندونيسيا أكثر من اثنين ونصف مليون متابع على تويتر، منافسا رجال الوعظ التلفزيوني الذين اتجهوا مؤخرا لتلك المنصات الجديدة لجلب أتباع والتعايش مع وسائل التأثير الجماهيري الرائجة الآن وتستهدف في الغالب فئة الشباب.
وتنشط أيضا في هذا الفضاء الذي لا تقدر الحكومة في إندونيسيا على السيطرة عليه بالكامل الهيئات الدعوية الوسطية التي تعتنق مفاهيم الدولة الوطنية الموحدة وتدافع عن “البانجاسيلا” وهي أيديولوجية الدولة وتلعب دورا في تفكيك روايات حزب التحرير وغيره من الجماعات المتطرفة، إلا أن الأخيرة تلجأ إلى العديد من الحيل بهدف التقليل من قيمة هذا الجهد عبر رواية رئيسية تصور فيها نفسها المدافعة عن القيم والمفاهيم الإسلامية الأصلية للحفاظ على هوية إندونيسيا التي تعرضت لغزو علماني غربي.
الضربة الذهنية

مصعب مقدس: الحزب جلب الانتماءات بوضع كوادره في مواقع استراتيجية
تعتمد الكوادر التابعة لحزب التحرير عبر المنصات الإلكترونية على طرق مبتكرة تنم عن تدريب وإعداد مسبق على الجدل والنقاشات الفكرية، ساعد على ذلك أن الحزب لا يلجأ إلى استخدام العنف ويؤجله لمراحل لاحقة وفق تفسيرات خاصة للتاريخ الإسلامي، اتباعا لأدبيات تقي الدين النبهاني مؤسس الحزب، والذي يعتبر نقطة البداية في التغيير وهي الدعوة السرية ثم مرحلة جمع المؤمنين مرورا بالدعوة الجهرية وانتهاء بقيام دولة الخلافة الإسلامية.
جعل هذا التكتيك حزب التحرير مميزا عن جماعات أخرى تتبنى التغيير باستخدام القوة المسلحة تحت عناوين الجهاد في سبيل الله، مثل جبهة الدفاع عن الإسلام، وتنظيم داعش، الأمر الذي أتاح له التفرغ للتجهيز الجيد لمباريات الحوار والجدل على وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الحوار والعصف الذهني الرقمية.
يشبه تكتيك ناشطي حزب التحرير في الفضاء الرقمي نظام المباريات والمناظرات الجدلية، حيث يثيرون قضية ويشككون فيها ناظرين إلى الحالة الذهنية والمستوى الفكري للمتبارين أمامهم، ويعرضون الحجة المجهزة مسبقا بعد الأخرى، خاصة في ما يتعلق بفكرة الخلافة الأممية ما يجعل من يحاورهم يتشكك في قناعاته ويُطلقون على هذا التكتيك “الضربة الذهنية” وهي مستوحاة من أساليب الداعية الهندي الجدلية ذاكر نايك.
تنظر كوادر حزب التحرير الإندونيسي لأنشطتهم ولما يقوم به عناصرهم المدربة على الفضاء الرقمي باعتباره أرضية فكرية داعمة لباقي أنشطته وبرامجه المتعلقة باختراق المؤسسات الحكومية ونشر قناعاته عبر المواد التعليمية والممارسات الدعوية بالمساجد.
يجيد الحزب من دون غيره من جماعات ومنظمات راديكالية في البلاد تنفيذ خطط متعلقة بالتسلل إلى المنظمات والمؤسسات وحتى الشركات والهيئات المملوكة للدولة، ومن خلال اختراقه وتواجده بتلك المؤسسات خاصة التعليمية وتأثير عناصره وناشطيه على المسؤولين عنها يتمكّن الحزب من جمع الأموال بحرية أكبر بالمقارنة بغيره، محولا عددا من هيئات الدولة إلى منبع تمويل للإرهاب والتطرف.
حزب التحرير يحاول الالتفاف على قرار حظره بالدخول مع مؤسسات الدولة المعنية وبعض المسؤولين في نزاعات قضائية وجدل قانوني بشأن طبيعة الحزب وهويته
علاوة على تلك الأموال التي يجمعها تحت عناوين التبرّع لمناصرة الشعب الفلسطيني والسوري داخل الأسواق الصغيرة، وجميعها تذهب إلى تمويل جماعات إرهابية حول العالم.
من بين العديد من المنظمات الإرهابية والتكفيرية في إندونيسيا التي تمتلك شبكات تنتشر في الأوساط المجتمعية دون القدرة على اختراق مؤسسات الدولة، يكاد ينفرد حزب التحرير بذلك ويرسل دعوات لمؤسسات حكومية وهيئات تعليمية لعقد فعاليات مشتركة، ما يتيح له الترويج لأيديولوجيته من الداخل، على الرغم من أن كل الجماعات والمنظمات بما فيها حزب التحرير تعتنق أفكارا واحدة وتسعى لهدف واحد وهو إقامة الخلافة الأممية وإلحاق إندونيسيا بها، واصفة الدولة الوطنية بدولة الطاغوت.
أتاحت الميزات التي يمتلكها الحزب عن غيره لقادته، فضلا عما يمتلكه من شبكه دولية قوية تتلقى التعليمات والتمويل المنتظم من مراكز المنظمة بالشرق الأوسط، أن يلعبوا أدوارا في التحول الأيديولوجي للحركات الإسلامية الأخرى من خلال طبيعة المفاهيم التي ينشطون في نشرها، ما جعل الحزب قوة دافعة رئيسية على المستوى الفكري للتطلع إلى فرض الشريعة الإسلامية وجعل إندونيسيا إحدى ولايات الخلافة الأممية.
صارت العديد من الجماعات أكثر راديكالية وتشددا في ما يتعلق بهاتين القضيتين (تطبيق الشريعة والخلافة الأممية) من منطلق التأثر بأطروحات ومواقف وممارسات قادة وعناصر حزب التحرير، ولم تكن جبهة الدفاع عن الإسلام لتنتبه لأسلوب تسيير المظاهرات مطالبة بتطبيق الشريعة إلا بعد أن تابع قادتها وعناصرها ما يقوم به حزب التحرير من فعاليات جماهيرية حاشدة لطرح هذا المطلب وغيره.
خبرة في الاختراق
قال الخبير الإندونيسي في شؤون الحركات الإسلامية مصعب مقدس لـ”العرب” إن الاحترافية التي يمارس بها عناصر الحزب أنشطتهم في الفضاء الرقمي ليست غريبة عليهم، فهي امتداد لخبراتهم السابقة وقادتهم في ممارسة النشاط الدعوي والتبشيري التقليدي خاصة في الجامعات.
وأوضح مقدس أن الحزب بنى الانتماءات من خلال وضع كوادره في مواقع استراتيجية بالحرم الجامعي وعقد العديد من الندوات وورش التدريب ونظم إحداها في جامعة ميدان الحكومية والجامعة الإسلامية والمحمدية بسومطرة الشمالية، مشددا على أن الحزب لديه الخبرة اللازمة في اختراق الهيئات والمؤسسات الحكومية، ما جعله منتشرا بطول البلاد وعرضها وفق ما صرح المتحدث الرسمي باسمه إسماعيل يوسانتو، والذي أكد أن حزبه موجود في 34 مقاطعة وأكثر من 300 مدينة.
منحت المناقشات المفتوحة مع طلاب الجامعات والمدارس حزب التحرير فرصة لم تُتح لغيره لنشر أفكاره بين الشباب في الجامعات والمساجد مُركزا على تشكيل مجموعات صغيرة موالية له، فضلا عن العلاقات التي أقامها مع العديد من المؤسسات الحكومية والهيئات الدينية المستقلة تحت ذريعة كونه ناشطا في الفكر الديني وفي الدعوة السلمية لأفكار تخدم الأمة الإسلامية، بعيدا عن اللجوء للسلاح والعنف والتغيير بالقوة.
حذر خبراء ومراقبون للأوضاع في إندونيسيا من أن تتسبب أنشطة حزب التحرير وأفكاره التي يجيد قادته وعناصره المدربون الترويج لها في حدوث صراعات في المجتمع يمكن أن تهدد النظام والأمن وتعرض سلامة الجمهورية الموحدة للخطر.
حظر على الورق
يرجع خطر الحزب لطبيعة القناعات والأفكار التي يروجها والمتمثلة في أن العالم الإسلامي يجب أن يكون خاليا من جميع أشكال الاستعمار وهو ما يفرض إقامة دولة الخلافة التي تعني قيادة الشعوب الإسلامية عبر دولة عالمية بقيادة زعيم إسلامي واحد، ولو لم يتحقق ذلك تظل جميع الدول دون استثناء مدرجة في فئة دار الكفر ولو كان سكانها من المسلمين.
يحاول حزب التحرير الالتفاف على قرار حظره بالدخول مع مؤسسات الدولة المعنية وبعض المسؤولين في نزاعات قضائية وجدل قانوني بشأن طبيعة الحزب وهويته، هل هو هيئة دعوية معنية بالأفكار حيث يُعَرِف الحزب نفسه كونه حركة دينية جماهيرية، ما يندرج تحت حرية الرأي والتعبير، أم هو حزب سياسي يعتنق ويروج لأفكار متشددة تغذي الإرهاب وتهدد سلامة البلاد ووحدتها.
ورفضت أخيرا المحكمة الإدارية بإندونيسيا الدعوى المرفوعة من الحزب ضد وزير القانون وحقوق الإنسان، على خلفية قرار حظره الذي هو بحكم القانون ساري المفعول في حين تعمل المنظمة على أرض الواقع وفي الفضاء الإلكتروني بشكل يقلل من قيمة قرار الحظر ويجعله كما لو كان لم يصدر من الأساس.
ليس في متناول جهود علماء ودعاة جمعية نهضة العلماء والجمعية المحمدية الإصلاحية في الفضاء الرقمي قدرة على تحييد طروحات ناشطي حزب التحرير وأفكارهم تماما، فهذه الساحة تستعصي على كل جهة تحاول السيطرة عليها، فما يُعرف بالمنظمات الإسلامية السائدة تعاني من مشكلات وصلت إلى حد تسلل الإخوان المسلمين إلى الجمعية المحمدية.
تكتيك حزب التحرير افتراضيا مميز عن جماعات أخرى الأمر الذي أتاح له التفرغ للتجهيز الجيد لمباريات الحوار
وعلى الرغم من نشاط حزب التحرير في الواقع وفي الفضاء الرقمي وهو بمثابة القاطرة الفكرية والأيديولوجية لغيره من جماعات الإرهاب المسلح ما ينذر بمستقبل قاتم وفوضوي، غير أن هناك مظاهر مطمئنة تجعل أهداف تلك المنظمات صعبة التحقق وبعيدة المنال في الواقع الإندونيسي.
غالبية الإندونيسيين لا يزالون يرفضون الفكر الأممي وإلحاق إندونيسيا بخلافة إسلامية عالمية ويصرون على التمسك بهويتهم الوطنية وتعاليم ومبادئ “البانجاسيلا”، ولوحظ الترحيب الشعبي بالتصدي الحكومي الأمني والثقافي لجماعات مثل حزب التحرير وداعش وجبهة الدفاع عن الإسلام.
ويدعم الموقف الشعبي الجهود الحكومية وصار يُنظر لهذه المنظمات ذات القناعات الأممية، مسلحة أو غير مسلحة، أنها العدو العام لإندونيسيا، لذلك اتخذت الدولة إجراءات عدة للتضييق على أنشطتها ومحاصرة أفكارها، ومنها حجب المواقع المشبوهة على المنصات وتأسيس هيئات تثقيفية لتكريس الفكر المعتدل وإلغاء وحظر أنشطة منظمات جماهيرية راديكالية.
تمثل الحركة التي نمت في إندونيسيا بسرعة على أيديولوجية الخلافة تهديدا حقيقيا لجمهورية إندونيسيا الموحدة، ويبدو أن هناك استشعارا بالخطر ومواجهة أمنية وفكرية تجري، إلا أن الخطر يتطلب جهودا أكبر تقضي تماما على التطرف ومنابع الإرهاب.
لو لم يحدث ذلك فإن إسماعيل يوسانتو، لا يزال المتحدث الرسمي باسم حزب التحرير، ولا يزال فيليكس سياو يحرض لإقامة الخلافة على مواقع الإنترنت، وهناك اختراق لبعض مؤسسات الدولة، فضلا عن أحزاب متعاونة لأغراض انتخابية تُعد غطاء سياسيا لحزب التحرير، الذي هو بحكم القانون محظور وبحكم الواقع غير ذلك.