الفريق أول حميدتي عدو الفوضى القوي

“لا فوضى بعد اليوم” كانت هذه العبارة التي أطلقها الفريق أول محمد حمدان دقلو حميدتي، في أحدث تصريحاته عن التطورات الأخيرة في الخرطوم. وهو تصريح كفيل بالإشارة إلى أن المجلس لن يتهاون بعد اليوم مع أي خلل أمني يعبث بالبلاد.
يؤكد حميدتي أن السودان سوف يطهّر من جميع الفاسدين والمتورطين في قضايا ضد الشعب، في إطار قانون حازم يعاقب المسيئين ويقتص منهم لمصلحة البلاد التي أصبحت منذ عزل البشير تحت قيادة مجلس عسكري انتقالي صار حميدتي نائبا لرئيسه الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان، في نقلة نوعية في تطلعات دقلو الذي كان ينظر إليه البشير كحليف له، قبل أن ينقلب الحال ويصبح من أشد خصوم الرئيس السوداني المعزول.
الجنرال الشاب
دقلو الذي ولد في 1975 متمرس في الحرب، رغم أنه واحد من أصغر القادة العسكريين سناً في السودان، عبر قيادته لقوات الدعم السريع التي عرفت بشدتها التي اكتسبتها في المعارك ضد متمردي دارفور وقد أصبح قائد تلك القوات عند عزل البشير أحد أهم اللاعبين السياسيين في الساحة السودانية، كيف لا؟ وهو الذي رفض الانضمام إلى المجلس العسكري الانتقالي في السودان في بداية الأمر ليتراجع عن هذا الرفض، ثم يعود إليه، في مناورة وصفت بأنها بناء للمستقبل الذي يبدو أن لحميدتي نصيبا فيه في سودان جديد.
ثاني أقوى رجل في السودان بعد رئيس المجلس العسكري في الوقت الحاضر، والأقوى مطلقا في القريب العاجل، ولمَ لا؟ وهو الذي يؤسس لدبلوماسيته التي بدأها بمباركة ودعم دولي لا بأس به، لم يحظ الكثيرون ممن حوله به.
تاجر الإبل وحامي القوافل التجارية سابقا، قد يصبح اليوم الرجل المفضل لدى الكثير من الدول العظمى ليمنع انهيار السودان وغرقه مثل دول عربية أخرى، عبر حنكة سياسية يتمتع بها. لقد رفض حميدتي المشاركة في قمع تظاهرات الخرطوم، قبيل عزل البشير، وكان قد استدعي أساسا لأجل هذا الغرض، إلا أنه بذلك كسب قلوب الكثير من السودانيين، وكانت تلك بداية معركته السياسية التي تطورت بعد ذلك، حين رفض ما جاء به عوض بن عوف، مطالبا بوضع فترة انتقالية لا تزيد عن ستة أشهر، وأصر على أن تكون
مهمة المجلس العسكري متركزة على إنقاذ اقتصاد البلاد، وتوفير احتياجات المواطنين، وتشكيل حكومة مدنية متفق عليها بين جميع الأطراف، ليجبر بن عوف على الابتعاد عن رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، التي تولاها البرهان، الذي استعان بدوره بالفريق حميدتي كنائب مقبول لدى المجتمع السوداني.
لين وشدة في الوقت ذاته
لا يخفى على متابعي الشأن السوداني أن حميدتي يؤثر استخدام سياسة اللين والشدة في التعامل مع الحراك الشعبي السوداني وقوى التغيير الوطنية، حيث يظهر خطابه، مدى إمكانيته في اللعب على هذا الوتر، من خلال التأكيد على محاسبة الرئيس المخلوع والتنويه بوجوده في سجن كوبر، مع التشديد على أن المجلس العسكري سيسعى لمحاسبة جميع المتورطين في قضايا الفساد من عائلة البشير. إلا أنه لا ينسى أن يوجه أصابع الاتهام إلى قوى الحرية والتغيير التي يصفها بعدم المصداقية خلال مباحثات نقل السلطة في السودان، مؤكدا أن الكثير من الاعتداءات قد وقعت على مقار الأجهزة الأمنية السودانية.
ولا يوفر حميدتي فرصة للدفاع عن الأجهزة الأمنية والمخابراتية السودانية التي يؤكد على عدم إمكانية حلها، حيث لا يرى ضيرا في بقائها بشرط أن تعاد هيكلتها، معتبرا أنها إحدى نقاط القوة في السودان الجديد، الذي يسعى هو ورفاقه في المجلس العسكري إلى حمايته من الفوضى التي كرر مرارا أنه لن يسمح بها بعد الآن، معتبرا أن القانون هو الذي سيفصل في جميع القضايا العالقة ولاسيما مدنية السلطة في السودان، مؤكدا على ضرورة أن يكون التغيير في إطار ثورة شبابية لا تخضع لأي أجندات خارجية. ولا يرى حميدتي ضيرا في أن تصبح الأجهزة الأمنية السودانية ذات مهمات محددة تؤهلها لأن تصبح صاحبة ولاء للسودان بعيدا عن ولاءات الأشخاص والقيادات، عبر تحويلها إلى مسار جديد يجعل عملها متركزا على مكافحة الإرهاب والجاسوسية ومنع تهريب البشر ومكافحة الفساد وغسيل الأموال، مشدداً على أن المهمة الأولى لأجهزة الأمن هي المساعدة في إنهاء الأزمة التي تمر بها البلاد.
إنه يدرك أن الدبلوماسية عمل لا مفر منه في البداية، خصوصا مع بداية أيام المجلس العسكري الانتقالي، الذي كان بحاجة كبرى لدعم دولي سريع. وقد وجد حميدتي نافذة له في مكتبه بالقصر الرئاسي، عبر لقاء جمعه بالقائم بأعمال السفارة الأميركية في الخرطوم ستيفن كوتسيس، الذي اطلع على أوضاع البلاد والخطوات التي سبقت عزل البشير، وأكد لحميدتي، حينها، ضرورة الانتقال السلمي للسلطة، وتحقيق متطلبات الشعب السوداني، فضلا عن لقائه بإيمانويل بلاتمان سفيرة فرنسا لدى السودان، والتي أكدت بعيد لقاء حميدتي أنها اطلعت بما يكفي على التزام المجلس العسكري بالحفاظ على التجمعات السلمية ومحاسبة كل من ارتكب الجرائم ضد الشعب السوداني، وهو ما تدعمه فرنسا والاتحاد الأوروبي، في إشارة ضمنية لدعمهما للمجلس العسكري السوداني.
ربيع لا تسحقه الصراعات
ينظر السودانيون بفرح حذر إلى ربيعهم الذي صنعوه عبر تظاهرات صمدت حتى نالت من سنوات استبداد البشير الطويلة، متخوفين من أن يحدث ما يجعلهم يندمون على ما صنعوه، خشية أن ينال بلادهم ما نال دولا عربية أخرى، من حروب وصراعات وأزمات اقتصادية ومعيشية عجلت بانهيار أحلام الديمقراطية، مؤكدين على أن استمرارية الحراك وفقا لتجربتهم الفريدة التي صنعوها بسلميتهم، هي التي أجبرت قادة الجيش على سلوك طريق التفاوض.
ورغم العثرات، إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر ما أحرزه السودان وتجربته الثورية من تقدم وهو ما أثبت أن ما حدث من تجارب في الدول التي شهدت حراكا شعبيا خلال السنوات الماضية، أعطى دروسا قيّمة لشعوب الدول الأخرى التي تطلعت حديثا إلى رسم تجاربها الديمقراطية بما يتيح تجنيب البلاد أعمال العنف والحروب المدمرة والكوارث الاقتصادية. ولعل تأخر الحدث السوداني، لم يكن إلا رغبة من السودانيين في أن تكون تجربتهم الديمقراطية جديرة بالتحقق والصمود بعد أن نضجت إثر تجارب سابقة شملت ثورتين سابقتين ضد نظامي عبود والنميري لم يكتب لهما النجاح، إلا أنهما كانتا كفيلتين بأن تمنحا الشعب السوداني نفسا جديدا وطويلا لأجل تحقيق رغباته في الحرية والديمقراطية الحقيقية بعيدا عن الشعارات الجوفاء. وقد يكون الحال كما يقول الكاتب السوداني آدم أبوبكر بأن “الشعب السوداني لا يريد أن ينطبق عليه قول الشاعر ‘دعوت على عمرو فمات فسرّني/ فعاشرت أقوامًا بكيت على عمرو'”، في إشارة إلى أن الشعب السوداني شعر بمرارة سابقة قبل أعوام خلت حين ضاعت تجاربه الديمقراطية، الأمر الذي جعله يحسب لأي خطوة من خطواته قبل أن يأتي بأي تصرف قد يندم عليه مستقبلا.
بين الانتقالية والأبدية
قال حميدتي “أنا شخصيا ما داير نائب رئيس، وغير الدعم السريع ما داير شبر لقدام”، كلمات بعامية سودانية، سمعت في تصريح له أمام ضباط الجيش السوداني، مشيرا في ضمنيتها إلى أن مهمته آنية لا تتعدى كونه من بين قيادات أهم فرقة عسكرية سودانية، والتي تسعى لحماية البلاد والحفاظ عليها من الفوضى التي قد تجتاحها مثل دول أخرى.
إلا أن هذا الزهد بالسلطة، يقابله تخوف شعبي سوداني من أن تكون الإطاحة بالبشير بداية الطريق لعهد رئاسي عسكري جديد، تتسلم فيه قوى الأمن السلطة المطلقة بعيدا عن حكومة مدنية يختارها السودانيون، خصوصا وأن “إعلان الحرية والتغيير” وجماعات معارضة أخرى ترى أن المجلس العسكري غير جاد في نقل السلطة للمدنيين، في حين يُعتقد أن يكون من الصعب على رجل مثل الجنرال حميدتي الذي يتمتع بقوة عسكرية كبرى أن يسلم السلطة بسهولة إلى الحراك المدني السوداني، حيث إنه يمتلك قوة الدعم السريع التي تسيطر على العاصمة الخرطوم، فضلا عن استناده إلى قوة قبلية تتمثل في قبيلة “الرزيقات” البدوية العريقة التي تعد إحدى أكبر قبائل السودان.
قد تطفئ الأحداث الأخيرة وتعنت أطراف المفاوضات في السودان أي بارقة أمل في حل قريب، ينقل السلطة لحكومة مدنية، حيث يصر المتظاهرون على ضرورة نقل سلمي للسلطة بينما يتجه المجلس العسكري الانتقالي إلى التعنت في مطالبه التي يعدها أساسا لبدء الحوار وفي أولها رفع الحواجز التي تؤدي إلى مقر قيادة الجيش، في حين يتأجج صراع الثقة بين الطرفين، خصوصا في ما يتعلق بالمجلس السيادي، الذي يصر العسكر على أن يكون من الجيش بينما تطالب المعارضة في أن يكون من المدنيين مع تمثيل عسكري.
وربما ينقسم الشارع السوداني حول حميدتي، فيعتبره البعض طوق نجاة يحمي السودان من الانجرار في صراعات السلطة والحكم التي قد تؤدي إلى حروب أهلية دامية لا رجاء منها. في حين يراه آخرون، رجلا قويا يتمتع بدعم عسكري وقبلي كبير، ويحمل في عقله أطماعا سياسية مستقبلية، يمكن ملاحظتها في ما أقدم عليه من المساهمة الفعلية في الإطاحة بعمر البشير، فضلا عن الشروط التي وضعها ليكون ضمن المجلس العسكري الانتقالي، وصولا إلى تهديداته الأخيرة حول ما سماه “الفوضى” وضرورة محاربتها.
كسب حميدتي قلوب السودانيين حينما وجّه أصابع الاتهام إلى الدولة السودانية التي ساهمت في تردي أوضاع المواطن السوداني، قبل أن يعلن أنه ليس معنيا بالاحتجاجات وقمعها وأنه لم يأت إلا لحماية المواطنين والدولة السودانية، ليعلن بعد الإطاحة بالبشير ضرورة تنفيذ رغبات الشعب السوداني، إلا أنه اليوم يقف على محك تلك الثقة والمحبة المكتسبة، والتي ربما ستضيع في غياهب رغبات السلطة التي يقال إنه يسعى إليها، أو إنها ربما تعزز في حال استطاع بقوته أن يوصل السودان إلى بر الأمان.