الفارق بين ابتسامة غلاسبي وخليفتها رومانوسكي

ابتسامة رومانوسكي تشبه ابتسامة خليفتها مع بعض التحديثات لكنها ابتسامة لا تعني الرضا فحروب التجويع والحصار التي برعت بها أميركا في تسعينات القرن الماضي بدأت بوادرها تلوح في سماء العراق.
الخميس 2023/10/12
احذروا ابتسامة رومانوسكي

لم يدرك الرئيس السابق صدام حسين في مقابلته مع السفيرة الأميركية أبريل غلاسبي عام 1990، قبل الغزو العراقي للكويت بأيام، أن ابتسامة غلاسبي والضوء الأخضر الذي كان يوحي كلامها به بالموافقة التي استشفّها الرئيس السابق باجتياح الكويت، على اعتبار أن الأزمة بين الدولتين شأن داخلي لا يحق لأميركا التدخل فيه، حتى راح صدام حسين في خيلاء غروره وبكلمات التطمين التي لمسها من غلاسبي بعدم التدخل، يعلن في بيان عن غزو الكويت صبيحة الثاني من آب – أغسطس عام 1990.

كان الجحيم ذاته هو ما فتح أبوابه للعراقيين، فقد كانت ابتسامة غلاسبي فخا للنظام لجرّه إلى مصيدة أحرقت البشر والحجر، وكانت مغامرة دفع الشعب العراقي ثمنها غاليا من أرواح بريئة وبنى تحتية وجيش محطّم لوثه اليورانيوم المُنضّب حين تحول طريق العودة والانكسار من الكويت إلى بغداد مقبرة للمعدات والآليات العسكرية.

كان يمكن أن ترى مشهدا مألوفا لجنود عراقيين، حفاة وعراة على استعداد أن يُقايضوا أسلحتهم الخفيفة مقابل توصيلة بأي وسيلة نقل إلى منازلهم، تلت ذلك سنون عِجاف من حصار وجوع وفقر أطبق فكيه على العراقيين واستنزف ما تبقّى من أرواحهم وأرزاقهم ومستقبلهم في سنوات الحصار الاثنتي عشرة التي كانت بعناوين إبادة جماعية لشعب بريء من أفعال حكامه.

ذلك التاريخ وتلك الأيام غابت عن كثير من العقول المثقوبة هذه الأيام من حكام العراق ما بعد 2003 وزعامات الحكم الجديد الذين يجالسون إلينا رومانوسكي السفيرة الأميركية في بغداد وابتسامتها التي لا تفارقها عند لقائها كبيرهم قبل صغيرهم، معممهم قبل أفنديهم، حتى وصل حُسن الظن بالبعض فراح يكيل المديح والثناء للدور الإيجابي الذي تقوم به رومانوسكي في إرساء الاستقرار ودعم النظام السياسي.

◙ لا تظنوا ابتسامة رومانوسكي في مجالستكم سوى أنها تخبركم بالقادم الأسوأ، لكنها بداية انقلاب ناعم لنظام يجلس على كرسي متصدّع، ارتبط مصيره بابتسامة رومانوسكي

وصل التفاؤل مداه عندهم عندما ظنوا أن رومانوسكي ومن ورائها البيت الأبيض سيكونان حُماة لنظام سياسي مهما بلغ تمزقه وتشرذمه.

لماذا لا يتّعظون من دروس الماضي القريب ويأخذون العبرة من ذلك الذي لم يعتبر؟

هل بقي من الضمير الحي من يتذكر جريمة ملجأ العامرية التي تقارن بجرائم هيروشيما وناكازاكي التي حدثت يوم الأربعاء 12 شباط – فبراير 1991 فجرا، عندما قامت الطائرات الأميركية بقصف ملجأ آمن يلجأ إليه المواطنون الأبرياء للمبيت ليلا هرباً من الغارات والقصف الجوي، إلا أن الموت حرقا كان بانتظارهم، حين أذاب القصف أجساد أكثر من 400 مواطن غالبيتهم من النساء والأطفال وكبار السن، التصقت أجسادهم بجدران الملجأ من شدة القصف. كان التبرير لتلك الجريمة من الجانب الأميركي أن الرئيس صدام حسين وأحد نجليه كانا من ضمن المختبئين في الملجأ، لكن هل كان ذلك مبررا لكل هذا التوحش في القتل؟ (الكاتب من ضمن شهود العيان الذي كان يشاهد كتل اللحم البشري المحترقة وهي تخرج محمولة من الملجأ بأكياس البلاستيك).

كم نحمل من الذاكرة المعطوبة حين لا يقتلنا رصاصهم بل سخافة تفكيرنا وسذاجة عقولنا وموت ذاكرتنا.

ابتسامة رومانوسكي تشبه خليفتها غلاسبي مع بعض التحديثات، لكنها ابتسامة لا تعني الرضا عما يحدث، فحروب التجويع والحصار التي برعت بها أميركا في تسعينات القرن الماضي بدأت بوادرها تلوح في سماء العراق ليتكرر ذلك السيناريو، بالتوازي مع استغباء سياسي حين يظن صبيان السياسة الذين لا يتجاوز مفهومها عندهم سوى دكاكين صغيرة للارتزاق والانتفاع، لا تظنوا ابتسامة رومانوسكي في مجالستكم سوى أنها تخبركم بالقادم الأسوأ، لكنها بداية انقلاب ناعم لنظام يجلس على كرسي متصدّع، ارتبط مصيره بابتسامة رومانوسكي.

يقول الشاعر المتنبي “إذا رَأيتَ نُيُوبَ اللّيثِ بارِزَةً، فَلا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَيثَ يَبْتَسِمُ” مع الاعتذار للتشبيه.

9