الغش ظاهرة مجتمعية تتحدى الأجهزة الحكومية في مصر

حيَل البكالوريا تخطت التكنولوجيا والتخطيط لها يبدأ قبل الامتحانات.
الأحد 2023/07/02
أولياء "متورطون"

تغطي حالات الغش في امتحانات الثانوية العامة المصرية (البكالوريا) على الكثير من تفاصيل الاختبارات، وهو ما تسبب في وجود أشكال عديدة تهيّئ له الظروف أثناء إجراء الامتحانات أو قبله، ويمتد الأمر أحيانا إلى البحث عن منافذ جديدة قبل وصول الطلاب إلى المرحلة الثانوية، ما جعله ظاهرة مجتمعية تتمدد دون أن تتمكن إجراءات الأجهزة الحكومية من السيطرة عليها.

القاهرة - انطلقت امتحانات البكالوريا في مصر منذ أسبوعين وتستمر إلى ما بعد إجازة عيد الأضحى، وخلال هذه الفترة ضبطت وزارة التربية والتعليم أكثر من 30 حالة غش، وهو رقم تظهره البيانات الرسمية للوزارة ولا يعبر عن حقيقة ما يدور في لجان الامتحان التي يقبع فيها أكثر من 700 ألف طالب وطالبة على مستوى الجمهورية.

تبدأ عملية البحث عن الثغرات التي تمكن الطلاب من الغش مع بداية المرحلة الثانوية، ويشير أحد أولياء الأمور إلى أن انتشار الغش في لجان بعينها خلال السنوات الماضية دفع الكثير من الأسر إلى نقل أبنائهم إليها ويتم تجميعهم داخل لجنة امتحانية واحدة، وهو ما يحدث على نطاق أوسع داخل مدارس خاصة شكلت بؤرا للغش الجماعي، وضاعفت رسومها المالية بعد تهافت الطلاب عليها.

ويضيف المصدر، الذي رفض الكشف عن هويته، لـ”العرب” أن “أساليب الغش لم تعد قائمة على استخدام التقنيات التكنولوجية الحديثة، كما كان معتاداً، حيث يبدأ التجهيز لها قبل انطلاق موسم الامتحانات عبر محاولات شراء ضمائر المراقبين لتسهيل عملية الغش داخل اللجنة”.

واستحدثت وزارة التعليم هذا العام كاميرات لمراقبة اللجان، لكنها ليست فاعلة في بعض اللجان، ولم يعرها الطلاب اهتماماً لضعف الإجراءات المتخذة ضد الغشاشين.

وهناك شبكات مجتمعية لديها مصلحة في أن يستمر الغش، لأن بعض الأسر التي ترى أنها أنفقت مبالغ طائلة على الدروس الخصوصية بحاجة إلى أمل يشعرها بأن ما جرى صرفه لن يذهب هباءً، وتستفيد مجموعات الغش التي تنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي من إقبال آلاف الطلاب عليها وتحقق مكاسب مادية هائلة.

شبكات مجتمعية للغش

1.7

مليار دولار ميزانية الدروس الخصوصية وهي تقديرات تعبر عن استنزاف مالي للأسر

تشير إحصاءات حكومية إلى أن ما يقرب من 50 مليار جنيه (1.7 مليار دولار) تذهب كميزانية للدروس الخصوصية سنويًا، بينها 10 مليارات (300 مليون دولار) توجه لطلاب الصف الثالث الثانوي وتؤهل للحصول على شهادة البكالوريا، وهي تقديرات تعبر عن استنزاف مالي للكثير من الأسر التي تعاني أوضاعاً اجتماعية صعبة وتواجه مشكلات أكبر في توفير الأموال اللازمة لإتمام شهادة البكالوريا بنجاح.

وذكرت إيمان سمير، وهي ولية أمر طالبة في الصف الثالث الثانوي، أن انتشار الغش على نطاق واسع في بعض اللجان وصعوبة الامتحانات خلال العامين الماضيين جعلا هناك رغبة في تحصين الأبناء من وقوع ظلم عليهم نتيجة قدرة البعض على الوصول إلى إجابات الامتحان، ويصبح من الجائز رفع شعار “المساواة في الظلم عدل”.

وأكدت في تصريح لـ”العرب” أن “وسائل الغش الأكثر استخداماً هذا العام تتعلق بسماعات الغش الخفية التي يتم تركيبها في الأذن وربطها بكارت فيزا يتم شحنه قبل كل مادة ثمنه ألف جنيه (33 دولارا)، وفتح خط مباشر مع معلمين خارج اللجنة يلتقطون أسئلة الامتحان المتداولة بين مجموعات الغش على تطبيق تليغرام”.

وأشارت إلى أن الكثير من الأسر تحاط بضغوط تدفعها نحو البحث عن أساليب وطرق الغش لأنها تتحمل تكاليف مالية طوال عام كامل، وترى أن الامتحانات لا تعبر عما جرى تحصيله طوال العام الدراسي، وهناك انتقادات لعدم تطوير المناهج أسوة بتطوير نظم الامتحانات، علاوة على ما سيتم دفعه من أموال في المستقبل القريب، حال التحق الطلاب بجامعات خاصة.

وخاض طلاب البكالوريا في مصر امتحان مادتي الجغرافيا والكيمياء الأحد، وسط شكاوى عديدة من وجود أسئلة تعجيزية في اختبار المادة الثانية، ومطالبات عديدة بتدخل وزارة التعليم للحفاظ على حقوق الطلاب، في وقت شهدت فيه الاختبارات تداولاً واسعا للأسئلة والإجابات.

واتخذت وزارة التعليم ضوابط لمنع الغش في الامتحانات، منها وقف التحويلات إلى مدارس بعينها وتركيب كاميرات مراقبة في اللجان لرصد المخالفات، ووضع باركود في كراسة الأسئلة لضبط أي طالب يقوم بتصوير الأسئلة، وتم تشكيل فريق لمكافحة الغش الإلكتروني مهمته تتبع صفحات الغش لرصد تداول أو تسريب الأسئلة.

النجاح والتفوق بأي وسيلة
النجاح والتفوق بأي وسيلة

ولم تكن هذه الإجراءات كافية، ووجه رئيس الهيئة البرلمانية للحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي (معارض) بمجلس النواب إيهاب منصور سؤالاً إلى وزير التعليم رضا حجازي بشأن الإجراءات التي تتبعها الوزارة للحد من ظاهرة تسريب امتحانات الثانوية العامة المتكررة سنويًا.

وتساءل النائب عن الإجراءات التي تمت تجاه من يقومون بهذه التسريبات وقد حدثت على سبيل المثال العام الماضي من مظروف الأسئلة الاحتياطية، مضيفًا “يجب على الوزارة أن تضع حدا لهذا الأمر المتكرر”.

وكشف مصدر مطلع في وزارة التعليم لـ”العرب” أن “إمكانيات الوزارة لن تُمكنها من ضبط أكثر من ألفي لجنة امتحانية على مستوى الدولة ومراقبة أكثر من 700 ألف طالب، وسط ضعف الإدارات التعليمية وتداخل العامل القبلي في بعض المناطق للضغط على المشرفين على العملية التعليمية، ما يجعل السيطرة على الغش ضربًا من الخيال”.

وأوضح المصدر ذاته أن الوزارة ليست مسؤولة بمفردها عن إدارة ملف الامتحانات، فهناك جهات أخرى تنسق معها، لكن تبقى مشكلة ملاحقة تطورات أساليب الغش أزمة حقيقية، وكلما اتجهت الأجهزة المعنية للتعامل مع ثغرة يتم فتح ثغرات أشد صعوبة في التعامل معها، كما أن اعتبارات الأمن القومي التي تحول دون استخدام أجهزة التشويش على اللجان الامتحانية تقود إلى وجود عدة مسارات للغش الإلكتروني الذي يشكل الجزء الأكبر من بين الحالات المضبوطة.

وشدد المصدر على أن وزارة التعليم تحقق كل عام مع ما يقرب من مئة طالب وطالبة، وربما أكثر، يتم ضبطهم وهم يغشون، وقد تصدر بحقهم قرارات تقضي بمنع إجرائهم الامتحانات لفترة معينة، غير أن ذلك لا يكفي ليصبح أسلوبا رادعا لوجود إجراءات قانونية قبل إصدار القرارات العقابية، ناهيك عن أن الرقم المضبوط لا يشكل رادعًا للطلاب.

عقوبات رادعة

بريء
بريء

قرر وزير التربية والتعليم رضا حجازي إحالة أي عملية غش إلكتروني يقوم بها الطالب، أو يشترك في تسهيلها ملاحظ اللجنة إلى التحقيق، وتحويل المتورطين إلى النيابة العامة، وتطبيق القوانين الصادرة بشأن تنظيم أحوال إلغاء الامتحان، والحرمان منه.

ويعاقب الطالب الذي يضبط بحوزته هاتف محمول دون استخدامه في عملية الغش بالحرمان من المادة التي يؤدى فيها الامتحان، ويعاقب الطالب الذي يشرع في استخدامه بالغش بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة تصل إلى خمسين ألف جنيه (1600 دولار) أو بإحدى العقوبتين، ويحرم الطالب الذي يرتكب غشا أو شروعاً فيه أو أي فعل من الأفعال التي تخل بأعمال الامتحانات من أداء الامتحانات في الدور الذي يؤديه والدور الذي يليه من العام ذاته، ويعتبر راسباً في جميع المواد.

وقال أستاذ علم النفس التربوي بجامعة عين شمس في القاهرة تامر شوقي لـ”العرب” إن “الغش في امتحانات البكالوريا كان مقتصرا على الطلاب دون علم أسرهم، لكن لوحظ مؤخرا أن الأسر أكثر تقبلاً للغش، وانخرط بعضها في حث الأبناء على البحث عن أساليب جديدة والاشتراك في مجموعات تليغرام يتم تسريب الامتحانات عليها”.

وفسر شوقي هذا التحول بتأكيده على أن أولياء الأمور يشعرون بضياع جهد أبنائهم طوال العام في ضوء وجود الغش وانتشاره في بعض اللجان، وحصول الطلاب الغشاشين على مجاميع مرتفعة تؤثر على فرص التحاق أولادهم بالجامعات والعمل بالقول المأثور “الغاية تبرر الوسيلة” والنجاح والتفوق لا بد أن يكونا بأي وسيلة.

إمكانيات وزارة التعليم المصرية لن تُمكنها من ضبط أكثر من ألفي لجنة امتحانية على مستوى الدولة ومراقبة أكثر من 700 ألف طالب

ولم يعف خبير علم النفس التربوي وزارة التعليم من المسؤولية، لأن طبيعة الامتحانات التي تضعها وتغلب عليها أسئلة الاختيار من متعدد تسهل عملية الغش، في ظل ضخامة عدد الطلاب وضعف كفاءة الكثير من المراقبين.

ويختلف البعض من خبراء التربية حول توصيف ما يحدث بكونه ظاهرة مجتمعية أم عملية فردية مع عدم وجود إحصاءات رسمية لحالات الغش والاكتفاء بالإعلان عن حالات قليلة يتم ضبطها، وهناك قناعة بأنه مع وجود غش في بعض اللجان فذلك لا يعني انتشار الظاهرة في جميع مقرات الامتحانات وتحويلها إلى ظاهرة مرضية.

وتعتقد أستاذة مناهج علم الاجتماع عزة فتحي أن انحدار القيم الأخلاقية يسهم بقدر كبير في تحول الغش إلى سلوك، وما تعرض له المجتمع من اهتزازات منذ فترة السبعينات من القرن الماضي، مرورا بفترة السيولة التي تعرضت لها الدولة عقب

ثورة يناير 2011، ينعكس سلبًا على قطاعات واسعة في المجتمع المصري، وأن التدهور الذي أصاب التعليم عموما لعب دورا في تنامي مسألة الغش.

وشددت في تصريح لـ”العرب” على أن “ضعف الإمكانيات وقلة القدرات التي تمتلكها الحكومة أحبطا مساعي بناء الإنسان وفق خطة تبنتها الدولة، قادت إلى إقالة وزير التعليم السابق طارق شوقي، ما يشير إلى ما ينذر بأن الدولة على وشك أن ترفع يدها عن التدريب والتعليم، كما أن اهتمام وزارة التعليم بالمعارف وتجاهل التقويم والتربية يجعلان بعض الأسر تسعى لحصول الأبناء على الشهادات بأي طريقة”.

وتنتهج وزارة التعليم الآن أسلوبا يسعى إلى إرضاء أولياء الأمور بعد أن تمكن ما يعرف بـ”غروبات الماميز” من إسقاط الوزير السابق طارق شوقي، كما أن ضعف رواتب المعلمين وتحول وظيفة المعلم إلى مهنة من لا مهنة له مع فتح باب التطوع من العوامل التي تفتح الباب لانتشار الغش والتدليس و”الفهلوة” والبحث عن حجج لتمرير سلوكيات من المفترض أن تكون مرفوضة من قِبَل المجتمع.

15