الغزيّون: "بدنا نعيش" مثل أولادكم

قمع حماس لمطالب البسطاء وردها عليهم بمظاهرات يكشف أسلوبا تنتهجه الأنظمة الدكتاتورية التي لا تتوانى عن معاقبة كل من يدعو لمحاسبتها أو لانتقادها وتطلق العنان لأسطوانة المؤامرة ولحملات التخوين.
السبت 2023/08/05
أوضاع معيشية صعبة

شهدت شوارع قطاع غزة يوم الأحد الماضي احتجاجات شعبية استجاب فيها الغزيون لنداء حراك “بدنا نعيش” السلمي ليعبّروا عن سخطهم الذي بلغ ذروته نتيجة الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي، في فصل كشف الستار عن تغيرات مناخية كبيرة وشهد فيه العالم بأسره مستويات قياسية لدرجات الحرارة، كان لهيبها قاسيا على سكان غزة في ظل الافتقار للطاقة التي تمكّنهم من استخدام المكيفات والمراوح لتلطيف الأجواء وهو ما جعل بيوتهم شبيهة بأفران الخبز.

وكما كان متوقعا اختارت حركة حماس التي تسيطر على القطاع منذ من 16 عاما، المعالجة الأمنية للاحتجاجات السلمية، وقامت بفض التجمعات الشعبية بالقوة، وأسفر هذا عن اعتقال بعض المتظاهرين، كما تعرض البعض منهم للتعنيف اللفظي والضرب ومصادرة الهواتف المحمولة من قبل قوات الأمن التي لا تتحرك من دون أوامر القيادة، واستهدفت بالتحديد من يحمل لافتات كتب عليها شعارات ذات طابع سياسي أو تتهم بعض المسؤولين في الحركة بالفشل في تسيير الأمور، وإقحام قطاع غزة في معاناة مزمنة تنسب فيها حكومة حماس فشلها في التسيير للاحتلال وحصاره.

وان كانت حماس قد استطاعت بقمعها المعروف أن تسكت الأصوات التي تنادي بحق العيش الكريم، فإنها لن تستطيع أن تقنع العقلاء بأن التضحية من أجل تحرير الوطن تبرر موت الفقراء بلا كهرباء

وبعد ساعات فقط من قمع الاحتجاجات أعلنت سلطة الطاقة عن البدء في تشغيل المولد الرابع للكهرباء بعد تلقي التمويل القطري اللازم، لكن هذا لم يكن كافيا لإقناع الغزيين أن حماس قد استجابت لمطالبهم مادامت تقابلها بالعنف وتصنف من يدعو أو ينظم لها بـ”الخائن”.

وبهدف الالتفاف على واقعية المطالب التي رفعها سكان غزة من مهمشين ومحرومين من أبسط سبل العيش الكريم، أطلقت حماس العنان لمظاهرات موازية تصدّرها المقربون منها والمستفيدون من حكمها تحت شعار “دعم المقاومة والمطالبة بالوحدة الوطنية ورفضًا للحصار”، استعملت فيها مكبرات الصوت لنشر البروباغندا وللرد على حراك “بدنا نعيش”، بتحميل الاحتلال المسؤولية الكاملة عن أزمة الكهرباء.

وليس غريبا على حكومة حماس أن تلجأ إلى استعمال أسلوب الإثارة العاطفية وتحويل انتباه الجماهير نحو قضية مقاومة “العدو” التي تشكل إجماعا شعبيا في غزة، لتشكل بها قوقعة تحميها من الانتقادات التي تطال سوء إدارتها ومسؤوليتها عن إقحام قطاع غزة والغزيين في وضع اقتصادي وإنساني بائس.

لا يختلف اثنان في كون الحصار الإسرائيلي قد أثر بشكل كبير على اقتصاد غزة، ولا ينكر عاقل أن تدمير البنية التحتية بالقصف الإسرائيلي قد ضاعف من متاعب الغزيين، وزاد من حاجة القطاع إلى موارد يعوّض بها ما تم تدميره، لكن هذا لا يعني أن خيارات التصعيد في المعارك التي شهدتها غزة مثل “صيحة الفجر” سنة 2019، و”سيف القدس” 2021، و”وحدة الساحات” سنة 2022، كانت خيارات صائبة. ذلك لأنها تجاهلت التكلفة المادية وما ينجر عن مواجهة عسكرية غير متكافئة القوة بين جيش يمتلك طائرات حربية فتاكة وصواريخ مدمرة، وفصائل تعتمد على صواريخ إيرانية تقليدية تعترضها القبة الحديدة بسهولة، ويسقط ما تبقى منها في مناطق غير مأهولة، وفي الكثير من الأحيان من دون أضرار تذكر.

وبعد كل مواجهة تسوّق إسرائيل لنجاح منظومتها الأمنية في ردع الخطر القادم من غزة، وتكسب تأييد الرأي العام بعد أن تلقت أقل الأضرار والخسائر البشرية، ويستأنف الإسرائيليون حياتهم وأعمالهم بعد أن زال الخطر القادم من غزة وكأن شيئا لم يكن. ويسوّق محور المقاومة الذي ترعاه إيران لخطابات النصر الإستراتيجي الذي قلب المعادلة وردع العدو وأجبره على قبول الهدنة. وفور زوال مفعول الخطابات الحماسية يستفيق الغزيون على واقع أكثر إيلاما وعلى فاتورة دمار لا تسعها مساعدات قطر مهما تضاعفت. وتلجأ حكومة “الجباية”، كما يسمّيها الغزيون، إلى ضريبة بنطلونات الجينز وأسطوانات الغاز ومواقف السيارات وما شابه من جبايات لتسد ما يمكن سده من عجزها المالي المزمن الذي لا تداويه دولارات قطر ولا بتكوينات إيران ولا شواكل الغلابة.

ليس غريبا على حكومة حماس أن تلجأ إلى استعمال أسلوب الإثارة العاطفية وتحويل انتباه الجماهير نحو قضية مقاومة "العدو".. لتشكل بها قوقعة تحميها من الانتقادات

ربما تكون حماس أكثر وعيا وإدراكا من الجهاد الإسلامي بمدى خطورة الوضع في ظل المرحلة الحرجة التي يمر بها قطاع غزة، وهو ما جعلها تختار إشراك كتائب القسام في مواجهة “وحدة الساحات” الأخيرة دون استعراض إعلامي، مستجيبة للدعوات القطرية والمصرية بالتهدئة، وحفاظا على مكتسبات الهدنة التي تلت مواجهة “سيف القدس” والتي من تضمنت حصولها على المزيد من تصاريح العمل في الداخل المحتل، ومن تسهيلات في حركة البضائع من قطاع غزة وإليه، وهو ما يقلص ولو بنسبة قليلة من متاعبها الاقتصادية ومن نسبة البطالة التي ترفع منسوب السخط الشعبي ضدها.

ولكن عندما نرى قمع حماس للمطالب الشعبية التي نادى بها أصحاب حراك “بدنا نعيش”، ونستمع لخطابات التهديد والوعيد التي يطلقها زياد النخالة متوعدا الاحتلال، ومتوعدا فيها بالجاهزية لخوض معركة جديدة، ندرك تماما أن حكم حماس ومنظومة عمل حركة الجهاد تضع مصالحها السياسية وتحالفاتها ضمن عمل محور المقاومة فوق كل الاعتبارات، وهو ما يجعل المطالب الشعبية خروجا عن الطاعة وشقا لصف المقاومة ولمشروعية الحكم.

يكشف قمع حماس لمطالب البسطاء وردها عليهم بمظاهرات أسلوبا تنتهجه الأنظمة الدكتاتورية التي لا تتوانى عن معاقبة كل من يدعو لمحاسبتها أو لانتقادها، وبدل أن تواجه بصدق وتعترف بأخطائها وبفشلها تختار الالتفاف على المطالب الشعبية، وتطلق العنان لأسطوانة المؤامرة ولحملات التخوين.

وان كانت حماس قد استطاعت بقمعها المعروف أن تسكت الأصوات التي تنادي بحق العيش الكريم، فإنها لن تستطيع أن تقنع العقلاء بأن التضحية من أجل تحرير الوطن تبرر موت الفقراء بلا كهرباء، في الوقت الذي يعيش فيه أبناء القيادات في بذخ وخارج معادلة التضحيات.

8