الغاز الروسي أهم من أوكرانيا

من الصعب الآن معالجة الأزمة دون تقديم تنازلات لبوتين حتى وإن لزم الأمر قبول احتلال شرق أوكرانيا واستبدال زيلينسكي بانقلاب عسكري لتصبح أوكرانيا التي ذهب الغرب لمساعدتها دولة مارقة.
السبت 2022/07/02
أوروبا في مأزق

قبل بداية الغزو الروسي لأوكرانيا كنت قد كتبت مقالا تحت عنوان “الغاز الروسي أقوى سلاح في وجه أوروبا” توقعت فيه أن بوتين سيمضي في حربه دون أن يكترث للعقوبات التي كان الغرب يلوّح بها، وأن التضخم سيرتفع بمعدلات قياسية في أوروبا وأميركا، وهو تماما ما يجري الآن، بالرغم من أن الغرب يحاول أن يغطي على تبعات المعالجة الخاطئة للأزمة التي أرادوها أن تغرق بوتين، فغرق الجميع بمن فيهم بوتين. والأدهى من كل هذا أن الرئيس الأميركي جو بايدن قدم هدية من ذهب للصين، التي راحت تعزف منفردة وتحقق مكاسب اقتصادية هائلة، في الوقت ذاته تنخفض شعبية الرجل الأول في البيت الأبيض إلى الحضيض، بفعل الأزمة الاقتصادية ومعدلات التضخم الكبيرة وغلاء المحروقات.

ربما أساء الغرب تقدير مدى عزم بوتين على اجتياح أوكرانيا بمجرد أن يتم تخويفه بالعقوبات الاقتصادية، ولكن ثعلب الكرملين صمم على اجتياح أوكرانيا. وربما كان الغرب يرسم طريقا لبوتين للسقوط في الفخ وينتظر أن يباشر الحرب. ولكن الغرب أدرك في المنعطف الأخير قبل بداية الغزو أن بوتين كان يتوقع أن يتم التضييق عليه اقتصاديا حتى وإن لم يقم بالدخول في مواجهة عسكرية، فكان قرار الدخول فيها واستعمال كارت “الغاز مقابل الروبل الروسي” للالتفاف على العقوبات الاقتصادية المفروضة.

بدأت المعالجة الخاطئة للحرب عندما أحرقت دول الناتو كل أوراقها في بداية المشوار، مستعملة سلسلة من العقوبات التي كان هدفها تركيع بوتين وتقسيم روسيا مجددا، تماما مثل ما فعلوا مع الاتحاد السوفياتي. وزعم الغرب أن حماية أوكرانيا ودعم فولوديمير زيلينسكي في وجه بطش بوتين أهم من الغاز ومن أيّ ابتزاز روسي، وتوقع الغرب أن بوتين سيأتي ذليلا يطلب إيجاد مخرج من الورطة، ومقايضة الغاز بتخفيف وطأة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه، ولكن الثعلب الماكر كان قد درس المسألة جيدا وهو على يقين من أنه في موقف قوة مادامت أوروبا هي من تحتاج الغاز حتى وإن أنكرت ذلك.

الموقف الخليجي والموقف الصيني خدما روسيا بشكل لم يتوقعه الغرب، الذي كان يظن أن الصين ستمسك العصى من الوسط وتحاول الابتعاد عن بوتين، وأن دول الخليج ستربط موقفها من الأزمة بحاجتها إلى دعم غربي يكبح إيران ويعرقل ملفها النووي؛ هذه المواقف ساهمت بشكل كبير في اضطراب أسواق النفط والغاز وفتحت لروسيا ثغرة تمكنت من خلالها أن تستعيد الأنفاس وأن تجهّز نفسها لحرب طويلة المدى عنوانها “أوروبا ستتجمد بردا في عز شتاء 2023”.

أصبح من الصعب الآن معالجة الأزمة دون تقديم تنازلات لبوتين، حتى وإن لزم الأمر قبول احتلال شرق أوكرانيا واستبدال زيلينسكي بانقلاب عسكري يحسم المفاوضات مع روسيا، لتصبح أوكرانيا التي ذهب الغرب لمساعدتها دولة مارقة ولا تستحق المساعدة.

أتوقع أن تتم الإطاحة بزيلينسكي وتقديمه كبش فداء ليخرج الغرب من المستنقع الأوكراني، الذي إن لم يجف سيستمر في ابتلاع مليارات الدولارات من خزائن أميركا وأوروبا وسيستمر في إنهاك أوروبا المحتاجة إلى غاز بوتين

الغرب الآن يحاول استعراض عضلاته من خلال إعلان توسيع نفوذ القوة العسكرية الأميركية في أوروبا، وسيتجه إلى البحث عن مفاوضات لعلها تحفظ ماء الوجه وتظهر بوتين في ثوب الخائف والغرب في ثوب المسيطر والقوي.

الغاز الروسي معادلة صعبة في حرب روسيا ضد الغرب: لا أسمّيها حرب روسيا ضد أوكرانيا لأن أوكرانيا مجرد حلبة صراع ولأن زيلينسكي مجرد بهلوان لا يقدم ولا يؤخر في الوضع شيئا ولم يكن ليصل إلى حكم أوكرانيا لولا ضم شبه جزيرة القرم في مارس 2014 والذي جعل الأوكرانيين يخاصمون السياسيين ويختارون ممثلا كوميديا.

أوروبا اليوم أدركت أن الحرب ضد روسيا ستكون على المدى الطويل، وأن مسألة الغاز ستكون أكبر حاجز للاستمرار فيها لأن ذلك سيعود بالضرر على كل من يحتاج هذا المورد الاستراتيجي والذي لن تنفع معه شحنات سفن أميركا ولا إمدادات إسرائيل ولا زيادة ضخ الغاز الجزائري والقطري؛ ستكون هذه الشحنات بمثابة مسكنات لأنها لن تستطيع إشباع السوق الأوروبية وخفض الأسعار.

دقت ألمانيا جرس الإنذار مسبقا، وصارحت شعبها أن شتاء 2023 سيكون الأقسى في تاريخ البلد. ثم تحدثت فرنسا عن إمكانية إعادة تشغيل محطات الفحم، وكأن ألمانيا وفرنسا تحاولان تهيئة الرأي العام لقبول التفاوض مع بوتين في حربه، مقابل تجنب عودة أوروبا إلى القرن الثامن عشر. حتى وإن كانت قمة السبع قد تعهدت بعدم السماح لبوتين بالانتصار، إلا أنها لم تكشف بأن احتمالات البحث عن هدنة وتفاوض ممكنة، ولهذا خرج الكرملين بتصريح يتزامن مع انعقادها مفاده أن روسيا مستعدة لإنهاء الحرب بشرط واحد وهو استسلام كييف. موجها رسالة إلى الغرب أن روسيا لا تبحث عن حلول بل الغرب من يبحث عنها.

مسائل عديدة تدفع الغرب لقبول “تأجيل الحرب ضد بوتين” لأن تغوّل الصين اقتصاديا ونشأة فكرة التحرر من الأحادية القطبية وخسارة التحالفات في دول الخليج وتهديد إيران بضرب إسرائيل، كل هذا يستدعي خفض التوتر وعودة الوضع إلى ما كان عليه قبل غزو أوكرانيا، وربما ستكون هناك جولة جديدة من المواجهة مع بوتين عندما يتخلص الغرب من حاجته إلى الغاز الروسي.

كون روسيا تملك سلاح الغاز في يدها لا يعني أنها قد انتصرت. أمام روسيا تحديات كبيرة خاصة في مسائلها الداخلية ووضعها الاقتصادي الذي سيكون له أثر كبير على شعبية بوتين، خاصة وأن العديد من الأصوات المعارضة نجحت في إقناع الأغلبية الصامتة بأن بوتين اتجه إلى أوكرانيا لمنعها من الانضمام إلى الناتو، ولكنه لم ينجح في ردع السويد وفنلندا، وكما يقول المثل الشعبي “وكأنك يا أبوزيد ما غزيت”. وفي النهاية فإن تفكير الجيل الجديد من الروس سيكون براغماتيا، ولن يلتفت لشعارات استعادة المجد وإحياء الشيوعية ونهج لينين في العالم، مقابل تقبل البطالة والتضخم وانهيار القدرة الشرائية.

أتوقع أن تتم الإطاحة بزيلينسكي وتقديمه كبش فداء ليخرج الغرب من المستنقع الأوكراني، الذي إن لم يجف سيستمر في ابتلاع مليارات الدولارات من خزائن أميركا وأوروبا وسيستمر في إنهاك أوروبا المحتاجة إلى غاز بوتين، وسيفتح الباب للصين في أن تتجاوز الولايات المتحدة اقتصاديا، وسيكون هذا الانقلاب ناعما بحيث سيوحي للجميع أن أوكرانيا لا تستحق المساعدة لأنها خرجت عن الشرعية والديمقراطية.

9