العولمة "تحتضر".. بداية عصر جديد من الهندسة الاجتماعية

انتهاء الوباء لا يعني نهاية الإجراءات الطارئة التي فرضها.
السبت 2021/01/30
حدود جديدة

وفّر الانتقال إلى عالم مفتوح وبلا حدود الظروف المثالية لتفشي جائحة كورونا العالمية. ويرى خبراء أنه للتغلب على هذه الأزمة غير المسبوقة، فقد حان الوقت للانتقال من العولمة المفرطة إلى نموذج أكثر استدامة للمجتمع.

لندن – يقدّم الخبراء تفسيرا رئيسيا لتفشي فايروس كورونا وهو العولمة التي غيّرت كوكب الأرض في السنوات الستين الأخيرة. ويؤكدون أن سبب تطور هذه العدوى الصغيرة وتحولها إلى أزمة عالمية هو الروابط القائمة بين كل الأمور والأفراد.

ويؤكد عالم الجغرافيا ميشال لوسو أن قوة فايروس كورونا المستجد الخارقة ناجمة عن العولمة. فأمر صغير تمثل بإصابة مريض أول في الصين نهاية العام 2019 تسبب بأكبر شلل عالمي في تاريخ البشرية.

ولعبت العولمة دورا غريبا في دورة الأوبئة. وفي البداية، جعلت العالم أكثر عرضة للإصابة بالأمراض المعدية. ثم في مرحلة تالية وتحديدا في القرن التاسع عشر، غذّت التطورات الطبيّة المنقذة للحياة. لكن هذا التقدم، بدوره، أدى إلى تسريع العولمة بشكل أكبر وجعل العالم أكثر وأكثر عرضة للأوبئة مثل فايروس كورونا.

وبعد قرابة عام على انتشار جائحة كوفيد – 19 في جميع أنحاء العالم، وجد الناس أنفسهم وسط دوامة محيرة من الفوضى والارتباك. ولا يزال بعضهم يعتقدون أن كل ما يتعين عليهم القيام به هو الانتظار بصبر حتى وصول دورهم في اللقاح وسيعود كل شيء إلى طبيعته قريبا. لكنّ خبراء كثيرين لا يشاركون هذا التفاؤل.

وإذا كان العالم محظوظا بما يكفي، فمن المحتمل أن تصبح العلاجات الطبية متاحة على نطاق واسع مع نهاية العام 2021.

وبانتشار الوباء، انطلقت التوقعات بنهاية العولمة. وأغلقت أغلب دول العالم حدودها، ووضعت قيودا متزايدة على حركة البشر والبضائع، وسنَّت تشريعات مقيدة للحريات، وتبنَّت سياسات مختلفة لمواجهة الوباء، وتبادلت الاتهامات حول المسؤولية عن بروز الفايروس أو انتشاره. الفايروس وحده من بات يتمتع بحرية الحركة الكاملة وتجاوز الحدود والقوانين والأنظمة. إن كان من الصحيح التوقع، كما هي تجارب الأزمات الكبرى من قبل، بأن نهاية الوباء أو انحساره لن تعني بالضرورة نهاية كافة الإجراءات الطارئة التي فرضها.

من المستبعد أن يعود العالم إلى فكرة العولمة ذات المنفعة المتبادلة التي طبعت أوائل القرن الحادي والعشرين

إن ما قد ينجم عن الوباء هو إحداث المزيد من التشققات في أطروحة العولمة، وإعادة التأكيد على سلطة ومصالح الدولة القومية، وقيمها الخاصة بها، وهو الاتجاه الذي أخذت بوادره في الظهور منذ سنوات قبل الوباء.

وتهتم أغلب حكومات العالم اليوم بإدارة حالة الإغلاق والحجر وتطوير أدواتها، وقياس فعاليتها في تأطير الحركة، واختبار ردّات الفعل الجماعية. وعلى ما يبدو، فإن العالم أمام سيناريو للتجربة الميدانية لما يسمّى بـ”الهندسة الاجتماعية”.

ويذكر أن الهندسة الاجتماعية هو تخصص في العلوم الاجتماعية يدرس الجهود المبذولة للتأثير على الموقف الشعبي والسلوك الاجتماعي على نطاق واسع، سواء من قبل الحكومة أو مجموعات خاصة.

ويقول عالم الاجتماع الألماني فرديناند تونيس في دراسة سابقة عنوانها “المشاكل الحالية للبنية الاجتماعية”، إن المجتمع لم يعد قادرا على العمل بنجاح باستخدام أساليب عفا عليها الزمن من الإدارة الاجتماعية. ولتحقيق أفضل النتائج، يجب أن تستخدم لأجل جميع الاستنتاجات والقرارات التقنية الأكثر تطورا والتي تشمل بيانات إحصائية موثوق بها، ويمكن تطبيقها على النظام الاجتماعي. وبعبارة أخرى، الهندسة الاجتماعية هي نظام علمي يستند إلى البيانات يستخدم لوضع تصميم مستدام وذلك لتحقيق الإدارة الذكية لموارد الأرض.

ويرى العالم ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد الأميركية، أن جائحة كورونا ستسهم في تقوية الدولة وتعزيز الوطنية، وأن الحكومات في مختلف أنحاء العالم ستتبنى إجراءات طارئة لإدارة الأزمة المتمثلة في تفشي الوباء، لكن العديد من تلك الحكومات لن ترغب في التخلي عن السلطات الجديدة عندما تنتهي الأزمة.

ووفقا لروبن نيبليت، الرئيس والمدير التنفيذي لمعهد “تشاثام هاوس” ومقره بريطانيا، فقد أجبر تفشي كوفيد – 19 الحكومات والشركات والمجتمعات أيضا على تعزيز قدرتها على التعامل مع فترات طويلة من العزلة الاقتصادية الذاتية، ومن المستبعد في ظل كل ما سبق أن يعود العالم إلى فكرة العولمة ذات المنفعة المتبادلة التي طبعت أوائل القرن الحادي والعشرين.

بيئة مثالية لتفشٍ قاتل

 قوة فايروس كورونا الخارقة ناجمة عن العولمة، فأمر صغير تمثل بإصابة مريض أول في الصين تسبب بأكبر شلل عالمي في التاريخ
 قوة فايروس كورونا الخارقة ناجمة عن العولمة، فأمر صغير تمثل بإصابة مريض أول في الصين تسبب بأكبر شلل عالمي في التاريخ 

في جميع أنحاء العالم، فرضت القواعد الاجتماعية الجديدة قيودا على السفر ووضعت بروتوكولات صارمة على التجمعات الكبيرة والحشود لمنع انتشار العدوى.

وإذا استمرت الأزمة لمدة عام آخر، فهناك خطر حقيقي من أن السلطات قد تفقد السيطرة على الوضع، مما يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية أكثر خطورة وربما حتى صراع دولي. ويصر قادة العالم على أن الفايروس هو “عدو البشرية”، ويدعون إلى بذل جهود مشتركة “لهزيمته”.

ويعتقد خبراء أن هذه الطريقة خاطئة للنظر إلى المشاكل التي يواجهها البشر لأن التفسير الحقيقي لما حدث يكمن في المجتمعات البشرية نفسها. ويكمن السرّ على وجه التحديد في الطريقة التي أنشأت بها أنظمة اجتماعية واقتصادية معرضة بشدة لتفشي الأمراض مثل الوباء الحالي.

وساهمت العديد من العوامل في هذا الضعف. أولا، فقد سمحت العولمة للناس والأشياء بالسفر حول العالم بسرعة وحرية ملحوظة. وانتشر فايروس كورونا من منطقة واحدة في الصين ليؤثر على كل ركن من أركان العالم في غضون ثلاثة أشهر فقط.

ويتكون العالم الحي من شبكة معقدة من النظم البيئية. وفي الظروف العادية، ليس من السهل على كائن حي أن ينتقل من مكان في هذه الشبكة إلى مكان آخر، بسبب المنطقة التي تخترقها الكائنات الحية المنافسة أو حدود قدرتها على التكيّف.

ولعدد من السنوات كان مصطلح “بلا حدود” أحد المصطلحات المحددة للعصر. لكن فكرة جعل العالم “بلا حدود” ، بحيث يمكن للناس والأشياء أن يتحركوا بحرية حول العالم، لم تكن أبدا أكثر من مصلحة بشرية ضيقة. وفرضت هذه الفكرة في ما بعد بغطرسة على العالم الحي، ليحصد العالم الآن الزوبعة في شكل مرض جديد خبيث ومتفجر.

وقد ساهم عامل آخر في تفشي الوباء، وهو التركيز المفرط للسكان البشريين في المدن الضخمة. وليس من قبيل الصدفة أن يأتي أكبر عدد للحالات من المدن الكبرى. وبحكم طبيعتها وهيكلها فإن مدينة ضخمة، حيث يعيش الملايين من الأشخاص بالقرب من بعضهم البعض، توفر بيئة مثالية لانتشار الفايروسات. لقد استثمرت هذه المدن الحديثة مبالغ ضخمة من المال والجهود في بناء بنية تحتية غير مرئية للنظافة العامة، بدءا من أنظمة المياه والصرف الصحي وصولا إلى مجموعة متنوعة من المنتجات المضادة للميكروبات.

وبالنسبة إلى الفايروس، فإن البيئة الحضرية التي يعيش فيها الملايين من البشر في مكان قريب من بيئة خالية من مسببات الأمراض توفر البيئة المثلى للتكاثر فيها.

نموذج أكثر استدامة

فوضى وارتباك
فوضى وارتباك 

بدءا من النصف الثاني من العام 2020، دخل العالم في “أسوأ ركود منذ الكساد الكبير”، وهو ما يؤذن باقتراب أزمات كبرى.

ولكن إذا كان الاضطرابات تبدو حتمية، فإن هذا يجعل الأمر أكثر أهمية للتوصل إلى رؤية للتغلب على هذه التحديات على المديين المتوسط والبعيد. ويعتقد خبراء أن الشكل الواقعي الوحيد الذي يمكن أن تتخذه المجتمعات للتكيّف هو التحول الدراماتيكي من النموذج الحالي القائم على الإنتاج الضخم والاستهلاك الشامل للمجتمع إلى نموذج أكثر استدامة. فإذا سلّمنا أنفسنا ببساطة للفوضى القادمة دون أي خطة للتخفيف من حدتها، فهناك خطر من أننا قد نكرّر أخطاء القرن العشرين، عندما أدت الغوغائية وعدم وجود رؤية إرشادية إلى مأساة الحرب العالمية.

ورغم أنه تم وضع المبادئ العامة للتحول إلى مجتمع مستدام منذ العام 1972، في تقرير نشره مركز الأبحاث التابع لنادي روما تحت عنوان “حدود النمو” احتوى أفكارا أساسية هي: التوقف عن إعطاء الأولوية للنمو الاقتصادي على جميع الاعتبارات الأخرى، وتجنب النمو السكاني، وتقليل استهلاك الطاقة والموارد الأخرى. ومضى ما يقرب من نصف قرن على نشر هذا التقرير، لكن مقترحاته لم تتحول إلى حقيقة. وقد حان الوقت الآن لقبول التحدي والجدية في معالجة هذه القضايا أخيرا.

ويدرك الكثير من الناس أن الأمور لا يمكن أن تستمر كما هي. وقد بدأ بعض الناس فعليا في اتخاذ خطوات نحو مجتمع مستدام. وقد أدى الوباء للعودة إلى عادة الطهي في المنزل على نطاق واسع، وبدأ المزيد من الناس في زراعة الخضروات الخاصة بهم. وكانت هناك زيادة هائلة في عدد الأشخاص الذين يفكرون في الانتقال من المدن إلى مناطق ريفية أكثر. ولا يقترح الخبراء أن تعكس عولمة الاقتصاد التي حدثت خلال العقود الماضية تماما، لكنهم يؤكدون في المقابل أن الوقت قد حان بالتأكيد لزيادة الاكتفاء الذاتي من الغذاء.

وتؤكد دراسات حديثة أن الوقت حان لإعادة النظر في الطريقة التي نعيش بها، فالإصابات بفايروس كورونا تركزت بشدة في المدن الكبيرة، بالمقابل كان هناك عدد أقل بكثير من الحالات في المدن والبلدات الإقليمية، وبالكاد توجد حالات في القرى الزراعية. لقد ذكّرتنا الفوضى والاضطرابات التي أحدثها الوباء بسلامة وأمن الحياة في البلاد وقوة الأسس التي نمتلكها في ما يتعلق بإنتاج طعامنا والاحتفاظ به.

ووفقا لدراسة جديدة، فقد قال حوالي واحد من كل أربعة أشخاص لديهم خبرة في العمل من المنزل إنهم مهتمون بشكل متزايد بالانتقال بعيدا عن المدن الكبرى. وتؤكد الدراسة “يجب أن ننظر مرة أخرى إلى قيم أنماط الحياة التي كانت تعتبر ذات يوم من المسلمات في جميع أنحاء العالم، والحياة حيث يولد الناس وينشأون في أمان ويعيشون ويعملون بأمان، ويتمتعون بحياة قديمة سلمية في التقاعد، وفي النهاية إنهاء حياتهم. يضغط الوباء علينا جميعا لإعادة النظر في أنماط حياتنا والقيم التي نتمنى أن نعيش بها حياتنا”.

20