العقل والمزاح
قد يذهب الظنّ بالبعض إلى أنّ العقل والدّعابة ضدّان لا يجتمعان، إذا حضر العقل بطل المزاح، والعكس صحيح. وكما قيل قديما، من قلّ عقله زاد هزله. هكذا هو رأي البعض. أمّا أنا والحقّ يقال، فقد اعتدتُ على أن أستعين بالدّعابة وأتوكل على المزاح كلّما واجهني أحدهم بموقف غرائبي أو مستغرب ينتمي إلى عالم الأساطير والخرافات وممّا لا يمكن تأكيده ولا يسهل تفنيده.
وإذ يتعذّر الردّ على الهذيان بالحجّة والبرهان فإني أعول على روح المرح في مناقشة من يحتجّ بالشعوذة ويستدلّ بالخرافة. وهكذا، عندما يخبرني أحدهم بموقف لا يتصوره العقل السليم، فأنا لا أبادر إلى تكذيبه، وإنّما أعيد صياغة روايته بنوع من التّحوير الكاريكاتوري فأجعلها مثار سخريته وتهكمه، ويشعر من تلقاء نفسه بحجم المفارقة في أقواله. بهذا النحو، كثيرا ما أحرز الضربة القاضية قبل الدّخول في مباراة لا تحكمها أيّ قواعد للنقاش الموضوعي.
وصدقا فقد اكتشفتُ بأنّ هذا هو الأسلوب الأكثر فعّالية في تحرير بعض الأشخاص من بعض خرافاتهم. وبلا شك، فإنّ نكت الشعوب تحمل في مجملها نفحة عقلانية تتهكم من الأفكار المغلقة والمتزمتة والمحافظة. لذلك، ليس مستغربا أن تمتلك الشخصيات الكوميدية الأكثر شهرة في العالم حسا عقلانيا نقديا لا يهادن الأساطير ولا يداهن الخرافات.
وتبقى النكتة فعلا تحريريّا يكشف للإنسان حجم التناقض في ما يظنّه ويتوهمه. إنها أسلوب فعال لأجل زعزعة المسلّمات وإثارة الشكّ في الثوابت، إنها تفتح فجوات اجتماعية لتسرّب قيم التسامح حتى داخل المجتمعات الأكثر تعصبا، إنها متنفّس للحس النقدي وتعرية للذات بعيدا عن كل الأقنعة الكاذبة، إنها نزع للقداسة عن كل الأشياء، وبفضلها يصبح الإنسان مستعدا لنقد مواقفه وتعديل آرائه، إنها صديق وفيٌّ للفكر العقلاني.
لذلك ليس مستغرباً أن يتميّز الأشخاص الأكثر عقلانية بروح الدّعابة والمرح كما يلاحظ الكثيرون. وعلى سبيل المثال، فقد كان ابن تيمية، وهو الذي لم يتردّد في تكفير المعتزلة واستباحة دمائهم، يشهد لهم رغم كل ما قاله عنهم، بأنهم أهل دعابة.
تذكرت شهادة ابن تيمية تلك على هامش أوّل لقاء جمعني بأعضاء رابطة العقلانيين العرب، كان ذلك في تونس بعد أن تعذّر عليّ السفر إلى فرنسا لأسباب بيروقراطية، وكان أكثر ما أثار انتباهي هو روح النكتة والدّعابة التي تسمهم جميعهم بلا استثناء، جورج طرابيشي، رجاء بن سلامة، عزيز العظمة، هاشم صالح، عبدالمجيد الشرفي.. هكذا اكتشفتهم كما هم. وقتها أيقنت بالمعاينة بأن العقل لا يبطل المزاح، بل هو مظهر من مظاهره.