العراق وفرمانات أحزاب الإسلام السياسي

الجمعة 2016/10/28

في عام 2005 كان القيادي في الحزب الإسلامي طارق الهاشمي أحد أعضاء لجنة كتابة الدستور العراقي، قد أبدى تحفظات واعتراضات قوية ضد مسودة هذا الدستور. يتعلق أحد تلك الاعتراضات بالحريات العامة ومحاولات تقييدها.

وتحت وطأة التقاطعات السياسية القائمة بين الأحزاب ذات المنحى الديني، بتوجهاتها الطائفية، وقتئذ، والتي شكلت صورة المشهد السياسي في العراق، قال في أحد تصريحاته "نحن نتعامل مع أناس لا يستحقون أن يكونوا رجال دولة، فقد وردت في صياغة مسودة الدستور عبارات رخيصة لا تصلح إلا أن تكون شعارات حزبية أو افتتاحيات لصحف رخيصة وسيئة”. لكن، وبعد ثلاثة أشهر، أبدى موافقته على صيغة الدستور، بوصفه الأمين العام للحزب الإسلامي، ورافقت هذه الموافقة ادعاءات، من قبل قياديين في الحزب الإسلامي، بكون الحزب هو الممثل الوحيد للمكون السني. لم تكن بغداد وحدها، في ذلك التاريخ، خارج سيطرة الحكومة الانتقالية، وإنما كان هناك أيضا ما يقارب أربع محافظات.

أستدعي هذا القول لأشير إلى أن صفة التمثيل في صيغته المطلقة، سواء أكان على المستوى السياسي، أم على المستوى المجتمعي والمؤسساتي وحتى الديني، صفة احتكرتها أحزاب الإسلام السياسي في العراق، لجهة كونها تمارس العمل السياسي وفق مبادئ الشريعة، أو هكذا تدعي.

غالبا ما لا تؤخذ تصريحات السياسيين والمسؤولين العراقيين على محمل الجد، من قبل العراقيين أنفسهم، كما الحال من قبل المراقبين للشأن العراقي، ليس لكونهم أشخاصا ساخرين، غير جادين، بل بوصفهم مخادعين، والعملية السياسية بالنسبة لهم لا تعدوا أن تكون سوى ساحة للكر والفر والمراوغة، لجهة تحقيق مكاسب شخصية، وتكريس نفوذ وهيمنة، أو تحقيق أجندات لجهات خارجية.

الأمر هنا لا يتعلق بمصداقية السياسي العراقي ولا بوصف حال الواقع السياسي المتردي في العراق، وإنما يتعدى ذلك إلى قراءة دوافع تمثيل العراقيين من قبله، ليس في مجال العملية السياسية وفنها الممكن، بل في ما يتجاوزه إلى صور تمثيل عابرة لكل شأن لا يخطر على بال أحد.

مثال ذلك تصويت مجلس النواب العراقي، في جلسته المنعقدة في 22 أكتوبر، وبالأغلبية على قرار يحظر بيع واستيراد وتصنيع المشروبات الكحولية في العراق عدا إقليم كردستان، والذي جاء بصفة مادة ألحقت بقانون واردات البلدية، في اللحظات الأخيرة، وقد عدت طريقة تمريره من بعض النواب في البرلمان خروجا صريحا عن السياقات التشريعية.

وكان عضو اللجنة النيابية القاضي محمود الحسن، النائب عن ائتلاف دولة القانون، وعضو حزب الدعوة الإسلامي، قد هنأ، على صفحته الشخصية على موقع فيسبوك، “المراجع الدينية” في العراق، إضافة إلى الشعب العراقي، على التصويت على مشروع كهذا، مضيفا بافتخار أنه “هو الذي تقدم بمشروع القرار وصوتت عليه اللجنة القانونية النيابية”. بل وقال في تسجيل مصور نشره على الصفحة ذاتها، إنه “سيقاضي كل من يحاول النيل من قانون حظر الخمور والتطاول عليه”.

هكذا يصبح محمود مكلفا بتطبيق شريعة السماء على الأرض، وتحديدا في العراق، عدا إقليم كردستان. هذه الشريعة، التي لم تنتهك حسب القاضي محمود بممارسة الفساد واللصوصية السياسية، والقتل، وإهدار كرامة العراقيين بتفقيرهم، وتهجيرهم في بلدهم، وتجهيلهم بتكريس غيبيات شعائرية، وسرقة حقوقهم المادية والمعنوية، وحتى مواطنتهم، لكنها انتهكت بالخمرة، لذا وجبت إقامة القصاص وتغريم المخالف بما بين 8 و20 ألف دولار.

عدا كون هذا المنع، كما وصفته منظمات المجتمع المدني وناشطون ونواب، مناصرا للفكر الداعشي في اجتثاث حريات الآخرين، وسيزيد من معدل البطالة، ويمهد لتعاطي المخدرات بكثرة، ويرفع من الاحتقان والغضب الشعبيَّيْن، يبقى ممارسة لطالما واظب عليها إسلاميو الأحزاب السياسية الحاكمة في العراق، محاولة دائبة لغرض فرض تصورات ذات بعد طائفي وإلزام العراقيين بها، بكونها خيارات سياسية يراد بها إصلاح اجتماعي. هكذا يهدر واقع العراق، منذ ما يقارب العقد من الزمن، عبر انتهاج مماحكات تظهر بصيغة تشريعات قانونية حينا، أو فرض سياسات أمر واقع، بقوة الميليشيات المسلحة، الذراع اليمنى لتلك الأحزاب الدينية.

يذكّر قرار منع الخمور، لجهة تطويق الحريات الشخصية، ومحاولة وضع اليد على ما تبقى من حقوق المجتمع المدني في العراق، وتوقيت إصداره، بـ”قانون الأحوال الشخصية الجعفري”، الذي قدم إلى البرلمان منذ أكثر من سنتين، ومن قبل حزب الفضيلة الإسلامي، أحد مكونات الائتلاف الوطني، والذي أثار وقتها ردود أفعال غاضبة، ووصف بحالة إعلان حرب ضد المرأة، كونه سيشكل تجاوزا فاضحا، ليس لجهة ترسيخ الطائفية وتعزيز الانقسام الهوياتي، وضرب نواة المجتمع العراقي المتمثل بالعائلة، وإنما كمحاولة أولى يتم خلالها التمهيد لاقتراحه بديلا عن قانون الأحوال الشخصية العراقي النافذ، الذي حظي بتعديلات استمرت لمدة عشرين عاما منذ تشريعه في العام 1959، ملبيا جميع التعاملات الشرعية للمذهبين السني والجعفري، وشكل خلالها لحظة انتصار تاريخية لحقوق المرأة العراقية.

“قانون الأحوال الشخصية الجعفري” ذاك، تم تبريره بذات الخطاب القائم على ما هو عقائدي. حيث صرح وزير العدل عن حزب الفضيلة، حينها، بأن اعتماد سن التاسعة لبلوغ الفتاة جاء انطلاقا من التزام الفتاة بالعبادات، في إشارة إلى إحدى فقرات القانون التي تبيح الزواج بالقاصرات بعد بلوغهن التاسعة والدخول في العام العاشر. كان ذلك القانون قد لوحق من قبل منظمات دولية اعتبرته انتهاكا صارخا لاتفاقيات دولية وقع عليها العراق، تتعلق بإشكال التمييز ضد المرأة، واتفاقية حقوق الطفل.

لطالما يعتمد سياسيو الأحزاب الإسلامية الحاكمة في العراق، سياسة الفرار من فكرة الدولة، بوصفها كيانا ماديا قائما على مبدأ سيادة القانون والمؤسسة الجامعة التي تعزز حماية حقوق الأفراد وحرياتهم، إلى صورة الأمة في نسختها العقائدية، وطريقة فهم شعبوية رثة، وبطائفية مبتذلة، وكما يتم تمثيلها، غالبا، من خلال خطاب الحزب الديني وأيديولوجيته، الذي هو معد لمخاطبة الطائفة السياسية وليس المجتمع التعددي.

ذلك ما يؤهل هذه القوى لأن تمضي بانتهازيتها ونفاقها السياسي، كي تعلن مشاريع وقوانين يائسة هي بمثابة “فرمانات” تحلل وأخرى تحرم، كي تجد متسعا من الوقت لتتقاسم مغانم السلطة مع بعضها البعض، عبر شرعنة الفساد واعتقال المجتمع المدني بذريعة الشريعة.

ثمة وهم آخر، يحكم هذه الطغمة، ينشأ من كون انتصاراتهم القادمة في الانتخابات، لا تعززها سوى هذه الالتباسات، تفريغ المجتمع من قواه المدنية كي يبدو خاويا، وذلك ما يجعل إمكانية ملئه بترهات يمارسونها ويدعون أنها تمثيلا إلهيا، واردة.

كاتب عراقي

6