العراق.. كذبة معاداة أميركا

لماذا تتحول الجماعات المسلحة في العراق إلى حطب لنيران الآخرين إلا إذا كانت هذه وظيفتها، وهي بكل بساطة وظيفة ارتزاق وليست دفاعا عن عقيدة ومذهب.
الثلاثاء 2019/01/08
معاداة واشنطن.. مجرد شعارات

الكذب على الناس في العراق وخصوصا على الموالين للأحزاب الشيعية صفة تعتبرها تلك الأحزاب حالة طبيعية، فالكذب قد توضع له مبررات فقهية دينية ومذهبية تمرره كما في حالة عدم تحريم أخذ مال الدولة أو مبررات سياسية أخرى، لكن قد يتم تمرير كذبة ليوم أو يومين أو لشهر أو شهرين، لكن الكذب على شعب العراق طيلة خمسة عشر عاما قصة لا تحدث حتى عند سكان غابات جنوب أفريقيا لكنها تحدث في مَجمَع العمائم السوداء والبيضاء.

قد يكون التفسير الرئيس لذلك هو أن مفاجأة تسليم الأميركان العراق لإيران لم يتم التبشير لها لا عند مراكز البحوث والدراسات الأميركية، ولا أجهزة استخباراتها العسكرية والأمنية، بل كانت المسألة تنحصر في معاونة طهران للأميركان باجتياح العراق عسكريا وإسقاط نظامه وإقامة نظام موال لواشنطن ليصبح القاعدة المتقدمة لمشروع الشرق الأوسط الكبير.

وكانت إيران داخل صندوق الاحتواء إلى جانب كل من العراق وكوريا الشمالية، رغم أن جميع الوثائق والتقارير كانت تتحدث عن تحالف استراتيجي عميق تجاوز الشعارات الاستهلاكية بين كل من أميركا وإيران وإسرائيل. وقد كشف الأكاديمي الأميركي من أصل إيراني تريسا بارسي الكثير من حقائق الاتصالات بين العواصم الثلاث في كتابه “التحالف الغادر” مؤكدا أن إيران وإسرائيل ليستا في صراع أيديولوجي كما يتخيل الكثيرون، بقدر ما هو نزاع استراتيجي قابل للحل، مستشهدا على ذلك بعدم لجوء الطرفين إلى استخدام أو تطبيق ما يعلنانه خلال تصريحاتهما النارية، فالخطابات في واد والتصرفات في واد آخر. وقد أثار مسألة توافق إسرائيل وإيران على شعورهما بأنهما أعلى من العرب، حيث ينظر العديد من الإيرانيين إلى أنّ جيرانهم العرب في الغرب والجنوب أقل منهم شأنا من الناحية الثقافية والتاريخية، ويعتبرون أن الوجود الفارسي على تخومهم ساعد في تحضّرهم وتمدّنهم ولولاه لما كان لهم شأن يذكر. مثلما يرى الإسرائيليون أنّهم متفوقون على العرب بدليل أنّهم انتصروا عليهم في حروب كثيرة.

لقد صُدم الإيرانيون في أيام الاحتلال الأولى بعد وصول تقارير وكلائهم السياسيين ببغداد من أن الأميركان لا يمتلكون مشروعا للبقاء الطويل سياسيا وعسكريا، وأن ما تحدث به أحمد الجلبي عن “عراق أميركي” لما بعد نظام صدام حسين وعن مشروع مارشال لإعادة البناء شبيه بألمانيا ما بعد هتلر ليس سوى خيال لمن لا يعرف ما هو المستقبل السياسي العراقي لأن عمله في الزعامة المؤقتة للمعارضة كان مجرد صفقة “بيزنس” لا أكثر.

هل حقيقة أن أعداء الولايات المتحدة وخصومها هم تلك الزعامات الشيعية التي كانت معارضة لنظام صدام حسين، والتي جعلت من بيوتها في لندن مضافات لأول سفير أميركي لديهم، وهو ريتشارد دوني، وقدمت له صورة العراق الشيعي المقبل، بل إن هذا السفير لم يلتق أو يستمع إلى المعارضين العراقيين من غير التيار الإسلامي الشيعي كشخصيات التيار القومي أو اليساري والبعثيين الذين تمردوا على صدام ومن بينهم سفراء ودبلوماسيون ومثقفون لجؤوا إلى لندن منذ أوائل التسعينات.

فأي عداوة وخصومة يتحدثون عنهما، ألم يذهب الراحل عبدالعزيز الحكيم، وكان عادل عبدالمهدي أحد قادة مجلسه الإسلامي، إلى واشنطن مع وفد المعارضة عام 2002 والتقى أكبر موظفي البيت الأبيض والكونغرس والبنتاغون لتنسيق الأوضاع لمرحلة ما بعد صدام. وكذلك تصريحات الحكيم في العام 2006 من واشنطن قبيل لقائه الرئيس جورج بوش الابن في السابع من ديسمبر 2006 ومعارضته سحب قوات الاحتلال الأميركي من العراق، ألم يهد زعيم حزب الدعوة إبراهيم الجعفري سيف علي بن أبي طالب إلى وزير الدفاع الأميركي الأسبق دونالد راسفيلد.

الحقائق تقول إن من خاصم الأميركان داخل العراق هم البعثيون والصدريون والوطنيون أصحاب الأرض العراقية، وقد انتظموا في فصائل مسلحة لمقاومة المحتل الأميركي وقدموا التضحيات الجسيمة من الأرواح، قبل أن يتم اختراق الفصائل السنيّة من قبل إيران وتنظيم القاعدة، فيما كانت المجاميع والأحزاب والميليشيات المسلحة تتبادل المعلومات الاستخبارية مع القيادات العسكرية الأميركية للانقضاض على تلك الفصائل. ولعل معركة الفلوجة الأولى مثال على ذلك. ثم يتحدث وكلاء إيران اليوم عن معاداة الولايات المتحدة، أي خصومة تلك والتنسيق كان مستمرا ما بين طهران وواشنطن لاختيار زعامات الحكم في بغداد منذ عام 2006 إلى حد اليوم. وآخر تجلياته التنسيق العالي ما بين بريت ماكغورك وجميع الأطراف الشيعية الفاعلة ومن خلفهم قاسم سليماني لاختيار رئيس الحكومة الحالي عادل عبدالمهدي. ثم ألم يفتخر الحاكم الأميركي للعراق، بول بريمر، باتصالاته مع المرجع الشيعي علي السيستاني للمساعدة في ضبط الأوضاع الأمنية والسياسية، ولمن يريد التفاصيل فعليه ان يراجع كتابه “عام قضّيْته في العراق”.

ألم تنسق القوات الأميركية مع قوات الحشد الشعبي في معارك تحرير الأراضي من تنظيم داعش. فما الذي جرى لتصبح هذه القوات في قواعدها هدفا لبعض الفصائل المرتبطة بولاية الفقيه وتطلق ثلاثة صواريخ هوائية قرب السفارة الأميركية ببغداد للإزعاج، وقد يكون هذا واحدا من الأسباب التي جعلت السفارة الأميركية تعارض فتح المنطقة الخضراء لأنهم يعلمون أن لا أمن يدار مركزيا في العراق والعاصمة بغداد، وهو ذات الأمر الذي أعلن فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب تأجيل زيارته لجنوده في قاعدة عين الأسد بالأنبار عدة مرات خلال أيام عيد الميلاد لأسباب أمنية، والتي أثارت ضجيجا مفتعلا مصدره طهران لإشغال الشارع العراقي الذي يعرف كل الحقائق، ويعرف قوة الطرفين، الأميركي والإيراني، العسكرية. وهم يفعلون ذلك أيضا لكي يوهمون الناس بأن قرار الانسحاب الأميركي من سوريا يجب أن يتبعه انسحاب من العراق ضمن لعبة الرسائل المزدوجة لأن حكام طهران اطلعوا ووافقوا على المعاهدة الأمنية والعسكرية التي شرّعت بقاء القوات الأميركية في العراق ولكنهم يريدون إشعار الرئيس ترامب بأن الشارع المسلح في العراق ينفذ تعليماتهم. والأكثر إثارة ما قاله رئيس نظام ولاية الفقيه روحاني بأن لا “مسؤول إيرانيا كبيرا قد طالب بسحق إسرائيل أو رميها بالبحر”.

ملالي إيران يعلمون بأن كذبة معاداة الولايات المتحدة لم يعد لها سوق في المنطقة سوى لتغطية مشروع خصومة المملكة العربية السعودية، وإشعارها بأن طهران لا تحتاج إلى المال لتقديمه لواشنطن فبواسطة وكلائها وميليشياتها في العراق وسوريا ولبنان قادرة على تحييد المواقف الأميركية لصالحها. إذن هي لعبة فلماذا تتحول الجماعات المسلحة في العراق إلى حطب لنيران الآخرين إلا إذا كانت هذه وظيفتها، وهي بكل بساطة وظيفة ارتزاق وليست دفاعا عن عقيدة ومذهب، ألم يثبت الأميركان بأنهم حريصون على هذا المذهب أكثر من البعض، وكما اعترف أحد القيادات الشيعية قبل أيام بأن دونالد ترامب أكثر صدقا من تلك الأحزاب والميليشيات.

9